لم تعد مقولة "إذا أردنا أن نعلم ما في الصين يجب أن نعلم ما في أميركا" مجرد مقولة نطلقها في معرض التهكم، وهذا ما تثبته  المؤشرات الاقتصادية  التي تصدر عن المراكز المتخصصة في العالم بين الفترة والأخرى، سيما عندما يتعلق الأمر في نسب النمو أو نسب البطالة والانكماش ومعدلات الإنفاق في ظل نظام العولمة الذي ربط اسواق واقتصادات العالم ببعضها.

وأكثر ما يلفتنا عندما نرى إحصاءات مثلاً تتعلق بنسب البطالة، إذ نراها ارتفعت لدى دولة متقدمة  تقع ضمن نطاق الاتحاد الأوروبي مثل اليونان نحو خمسة أضعاف أو اكثر بالمقارنة لدى دولة ضمن الدول الأفريقية النامية، أو دول "البريكس" أو حتى العربية...

اليونان تسجل21.7  % نسبة بطالة عام 2011 بالمقارنة مع نسبة 8.7% عام 2007، وبنسبة تراجع تقدر بنحو 140%، فيما تتراجع نسبة البطالة في دولة مثل أندونيسيا وهي دولة نامية تطبق بشكل عام نظاماً اقتصادياً إسلامياً، نرى نسب البطالة لديها تحسنت من 9.11 عام 2007 الى 6.3% عام 2011، وبنسبة تحسن تقدر بنحو 44%، وفي دولة مثل فنزويلا وهي تتبع اجمالاً نظاماً اقتصادياً اشتراكياً، أيضاً نسبة البطالة لديها تبقى مستقرة تقريباً، من 6.20 عام 2007 الى 6.5 العام الماضي، كذلك الأمر بالنسبة لتركيا وهي دولة ناشئة لديها صناعات متوسطة، ومعدل دخل فردي مقبول بالمقارنة مع الدول العربية والأسيوية، وكانت تتحضر قبيل الأزمة العالمية للدخول الى الاتحاد الأوروبي، فقد انخفض لديها مستوى البطالة من 10.6 عام 2007 الى 9.10 العام الماضي.

وهنا نتساءل هل يمكن لنا أن نستند على هذه المؤشرات المتعلقة بالبطالة لقياس حجم اقتصاد ومستوى أداء كل دولة على حدى؟. علمياً بالطبع لا، أما عملياً فهذا يمكن في بعض الجوانب، لنرى كيف..

يؤكد خبراء الاقتصاد دوماً أنه إذا أردنا قياس قوة أي اقتصاد وحجمه وأدائه وحجم تأثيره وتفاعله في اقتصادات العالم، هناك الكثير من الاعتبارات يجب الاعتماد عليها ككقياس، من بينها حجم الناتج المحلي او الكلي لهذه الدولة، وحجم النمو السنوي والدين، وقياس معدلات الاستهلاك والمتوسط الشهري لدخل الفرد وصولاً لمقاييس أخرى. وعليه فلا يمكن الأخذ فقط  بمؤشر حجم البطالة، والذي إن دل بالنسبة لدولة صناعية إنما يدل على أزمة يمر بها هذا البلد والسياسات التي يتبعها لتفادي تفاقمها، أو لإيجاد حلول جذرية لها، علماً أنها قد تكون آنية ناتجة عن ظروف اقتصادية داخلية أو تداعيات خارجية (كمثل حالتنا تداعيات الأزمة العالمية)، وقد تكون عضوية (في النظام والإدارة نفسها)، وللتقرب من ذلك يجدر بنا قياس اليونان كدولة صناعية ضمن الاتحاد الأوروبي ومقارنتها مع دولة أخرى في الاتحاد مثل ألمانيا، والتي لم ترتفع  نسبة البطالة لديها بل تراجعت من 8.4% الى 7.4% كما أنها سجلت  في الربع الأول من هذا العام نمواً في ناتجها المحلي رغم أنه لا يزال طفيفاً فقد بلغت نسبته 0.5%، رغم انكماش اقتصادها العام الماضي.

إذن رغم أخذنا بعين الاعتبار الفرق ما بين اليونان كقوة اقتصادية وكموقع في الاتحاد، وما بين قوة الاقتصاد الألماني وموقعه في الاتحاد حيث يحتل المركز الأول ويسجل نسب نمو، وهو الذي يدفع اقتصاد الاتحاد ككل، يبقى تساؤلنا في مكانه حول الأسباب الكامنة وراء أزمة اليونان والتي جعلت نسب البطالة تقرب الى هذا المستوى الخطير، وهذا بدوره يعكس مخاطر اجتماعية فضلاً عن تأثيره في عجلة الدورة الاقتصادية بسبب غياب شريحة كبيرة من مواطني الدولة عن التفاعل مع هذه الدورة، وبالتالي تباطؤء مسيرتها  وصولاً الى الانكماش الكلي، مع ما يعنيه ذلك من تراجع في الإنتاج الصناعي والخدماتي، وانخفاض القدرات الشرائية للافراد.

الآن يعود الى ذهننا السؤال الاستراتيجي: لكي نعرف ما الذي يحصل في اليونان يجب أن نعرف ما الذي يحصل في ألمانيا أو لنكون أكثر عدلاً ما الذي يحصل في الاتحاد الأوروبي أو البنك المركزي الأوروبي؟ وهل هناك فعلاً قرار سياسي وراء كل ما يجري في اليونان؟ يشتد هذا السؤال عندما نعود الى أصل الأزمة اليونانية وهي انهيار المصارف التي تأثرت بأزمة عام 2008 العالمية، والتي ساهمت في تراكم الديون السيادسة لليونان، والتي وصلت الى نحو 376 مليار يورو، قبل أن تتراجع الى 280 مليار يورو في منتصف الشهر الجاري بفعل إلغاء مانحون من القطاع الخاص لقروضهم وليس بفعل تدخل المركزي الأوروبي. فهل هناك قرار سياسي وراء كل ما يجري في اليونان؟ خصوصا ً أن حجم الاقتصاد الأوروبي ضخم بشكل كافي يؤهله لطرح سندات خزينة أوروبية لاستيعاب تلك الديون عبر مساهمات من  دول الإتحاد.

يؤكد بعض المحللين على أن تفاقم الأزمة اليونانية أساساً نتيجة أ سباب سياسية  ، فإذا  توافرت الإرادة السياسية، يمكن التعامل مع أزمة  الدين بشكل أكثر فعالية وأقل تكلفة على المستويين الاجتماعي والسياسي. وتجدر الإشارة هنا الى أنه في الاقتصاد هناك نظريتان أساسيتان لتنفيذ إصلاحات بنيوية في اقتصاد دولة ما، إحداها تعتمد على سياسات التقشف وعسر الإنفاق وزيادة الضرائب ورفع الفوائد على العملة الوطنية لزيادة موارد الموازنة وتخفيض العجز فيها ، وهناك نظرية أخرى تتركز على خلق وتمويل مشاريع استثمارية وتحفيز القطاعات من اجل المزيد من الإنتاج ما يخلق بدوره فرص عمل وينعش الاقتصاد ويؤدي الى تحقيق نسب نمو.

الاتحاد والبنك المركزي الأوروبي، فرضا على اليونان سياسة التقشف لكي تقوم بإصلاحات بنيوية في اقتصادها، كما أن حزمة التمويل الأخيرة التي حصلت عليها اليونان، تحت إشراف كل من البنكين الأوروبي والدولي والاتحاد، أقل بكثير من احتياجاتها لتخفيف أعباء ديونها، وهذا ما جعلها تخفق في تحقيق نسب النمو المرجوة، وبالتالي الوصول الى هذه النسب المرتفعة من البطالة والتي فجرت أزمة اجتماعية لم تشهدها أوروبا منذ عام 1929 ولعل الاضطرابات الأمنية ونزول الناس الى الشوارع أكبر دليل على عمق هذه الأزمة.

الآن  تظهر لنا نسبة البطالة أحد المؤشرات الخطيرة لواقع البلاد فضلاً، عن تراجع نسب النمو وغيرها من المؤشرات، فهل تخرج اليونان من منظومة العولمة وتكون نقمة على الاتحاد؟ أم سيستنبط الإغريقيون نظريات جديدة من واقع حالهم؟