تجتاح العالم اليوم حالة مرضية تتلخّص في "إنعدام الأمن الغذائي".. كشفت عنها تقارير كثيرة صدرت عن الأمم المتحدة، لتنشر للناس حقائق مأساوية ومفجعة، إذ أن ما يقارب الـ 870 مليون إنسان حول العالم يعانون نقصاً مزمناً في الغذاء، وأكثر من 2.5 مليون طفل يموتون كل سنّة بسبب انعدام الغذاء أو نقصه، ومع أنّ العالم اليوم بأنظمته السياسية والاقتصادية وهيئاته الإنسانية ومنظماته الخيريّة، يملك  وسائل معرفة تمكنه من القضاء كلياً على مآسي الشعوب الجائعة، إلا أنه يفشل فشلاً كبيراً في مهمّته حتى هذه اللحظة.

وإذا نظرنا بعين العدل والإنصاف، نجد - وعلى نحوٍ مغاير للواقع - أن كميات تعادل نصف المواد الغذائية المنتجة عالمياً تُلقى في القمامة..!! وهذا ما كشف عنه تقرير صدر عن "مؤسسة المهندسين الميكانيكيين" البريطانية، ففي المملكة المتحدة أكثر من 30% من المحاصيل الزراعية لا يتم حصدها أساساً، وذلك لعدم مطابقتها معايير "الشكل" التي يضعها تجار التجزئة على المنتجات، بالإضافة إلى الأطعمة التي يتم إتلافها قبل أن يشتريها المستهلك أو تصل إليه.

خذ على سبيل المأساة، في ​الولايات المتحدة​ وأوروبا، فإن 50% من المواد الغذائية المنتجة ينتهي مصيرها إلى مكبات النفايات، وهذا الحال هو أيضاً مصير كميات أخرى من المزروعات والمواد الغذائية في دول جنوب شرق آسيا تصل الى ما يقارب الـ 80% من الإنتاج الكلي.

وليست هذه النسب مفاجئة بقدر المسببات التي أدت إليها، فهي تجعلنا نشك في "إنسانية" الإنسان إذا ما استمر الأمرعلى هذا النحو من الفوضى؛ إذ إنه - على سبيل المثال- لا معنى يمكن فهمه من تصرفات  تجار التجزئة البريطانيون، ومعايير الجمالية التي يضعونها على مختلف أصناف الأطعمة، وكأن هذه الخضروات ستعرض في متاحف ​بريطانيا​ وليس داخل متاجرها وتعاونياتها الاستهلاكية.

زد على ما سبق، ثقافة الاستهلاك المتبعة في كثير من المجتمعات، لا سيما دول أميركا الشمالة وخاصّةً الولايات المتحدة، وما يقابلها جنوباً من الدول اللاتينية التي يجتاحها نقص حاد في الغذاء. كذلك الأمر في جنوب شرق آسيا، حيث تتلف بعض الدول عشرات ملايين الأطنان كل سنة، بحجّة ضعف أنظمة النقل والزراعة الحديثة، وسياسات الاحتكار الممارسة من قبل التجار، وانعدام الوسائل المطلوبة لتخزين الأغذية وحفظها على نحو سليم.

نعم، يحتار العاقل أمام هذا الجشع العالمي الغير مسبوق، وحين نستخلص مما ذكرناهُ أن آفة الجوع القابضة على مئات ملايين البشر حول العالم، ليست من صنع السياسات الاقتصادية الخاطئة أو الجهل والإهمال فقط، أو أنه أمر مقدّر عليهم بالضرورة، ولا يمكن تغييره بمعايير واقعية، بل هو تقدير خاطئ فقط، تقديرٌ خاطئٌ يعكسهُ سلوكنا الاستهلاكيُّ على كافّة المستويات الفردية والجماعيّة، وحتّى المؤسّسية.

والحقيقة أنَّ أعداداً كبيرةً من الوفيات في كثير من البلدان الفقيرة يموتون جوعاً لامتناع الغذاء عنهم، حيث نجدهُ في قبضة من لا يحتاجونه أساساً. يمكننا أن نعتبر أن استشهاد أولئك الجياع في سبيل لقمة عيشهم، ما هو إلا نيرانٌ صديقة كتلك التي تحصل عن طريق الخطأ في الحروب.

نحنُ نعلم، أن ملايين البشر يموتون كل عام بسبب نقص الغذاء، في وقت يتلف فيه أكثر من 2 مليار طن من الغذاء سنويا دون أن يصل إلى فم أي إنسان من العالم، فلو أن هناك استهلاكاً رشيداً ، وتوجيهاً صائباً لهذا الفائض الهائل من الغذاء، سيكون هذا الطعام على موائد الجياع بدل أن يتلف بطريقة تعتبر من أقبح صور الهدر الذي يمارسه الإنسان. وعندها فقط يمكن أن نسأل أنفسنا.. هل بقيَ على الأرض جائع؟