تعددت الروايات وتكاثرت أصابع الاتهام... لكن الانفجار واحد! ففي تاريخ الثلاثاء 4 آب 2020، في الدقائق الأولى من الساعة 6:00، انفجر 2750 طنا من نيترات الأمونيوم كانت موجودة في العنبر رقم 12 في ​مرفأ بيروت​، ووصل قطر الانفجار الى 8 كيلومتر، ما أسفر عن وقوع أكثر من 160 ضحية و5000 جريح، وتشريد نحو 300 ألف لبناني، وإحداث حفرة بعمق 43 مترا، وتدمير جماعي لشعب بكامله كان يصارع من أجل البقاء في ظل أزمة اقتصادية طاحنة، ووباء مميت، وفساد واحتكار يسيطران على كافة جوانب الحياة اليومية.

لقد عاشت البلاد 6 أيام كارثية، بعد أن سرق الانفجار الضخم أهلنا وأولادنا ومنازلنا وأرزاقنا، وضرب مستقبلنا وآمالنا، ودمّر مجتمعنا واقتصادنا، فدفع بنا أكثر فأكثر نحو النفق الأسود المجهول...

وفي ظل الظروف الصعبة التي يمرّ بها لبنان، خفف التضامن الاجتماعي الذي أظهره الشباب اللبناني من هول الكارثة، وأعاد نوعا من الأمل بغد أفضل، كما عاد التصعيد في الشارع، في ظل استقالات نيابية ووزارية بالجملة، وزيادة التخبط في السلطة السياسية.

ومن جهة ثانية، أظهرت الدول العربية، وفي مقدمها ​مصر​، ​​العراق​​، ​السعودية​، ​الكويت​، قطر و​الإمارات​، تضامنها مع لبنان وشعبه، من خلال ​​المساعدات​​ الإنسانية العاجلة التي وفّرتها.

لا شك في أن الحياة ما بعد تفجير المرفأ، مختلفة تماما عن ما قبله. فهل يمكن اعتبار الانفجار مرحلة جديدة قد يبنى عليها للمستقبل، بحيث تشهد البلاد منعطفاً جديداً تاريخياً؟ ما هي التداعيات المباشرة وغير المباشرة للتفجير الكارثي؟ ماذا سيحل بلبنان بعد مساعدات مؤتمر "الدعم الدولي لبيروت" التي جاءت مخيبة للآمال؟

هذه التساؤلات وغيرها، أجاب عليها الخبير المالي والاقتصادي د. بلال علامة، في هذه المقابلة التي خصّ بها موقع "الاقتصاد":

- بعد حوالي أسبوع على وقوع التفجير الكارثي في مرفأ بيروت، ما هي التداعيات المباشرة وغير المباشرة على الاقتصاد المحلي؟

لا بد من الاشارة الى أن ما حصل ليس حدثا عابرا، حيث أن تفجير مرفأ بيروت أدى الى إزالته عن الخريطة، وبالتالي، تعطيله لفترة قد تمتد الى سنوات مستقبلية، ناهيك عن الخراب والدمار والشهداء والجرحى الذي وقعوا نتيجة حجم التفجير الكارثي الذي حصل.

النتائج المباشرة لتدمير مرفأ بيروت كارثية على الاقتصاد الوطني، اذ يعتبر هذا المرفأ، المرفق الأساسي والحيوي والرئيسي لعملية ​التجارة الدولية​ التي تتعلق بالحياة الاقتصادية اللبنانية، ويستحوذ على ما نسبته بين 60% و70% من حجم هذا ​التبادل التجاري​ الدولي. إضافة الى أن مرفأ بيروت يلعب دورا استراتيجيا في عملية التواصل ما بين بعض الدول الغربية والداخل العربي، أي مرورا بما يسمى بـ"الترانزيت" الى ​سوريا​ والعراق و​الاردن​ وبعض البلدان العربية.

التداعيات التي نتجت عن هذا التفجير ضخمة للغاية، وهي ذات وجهين، وجه مباشر ووجه غير مباشر. في الوجه المباشر، سيخسر الوطن اللبناني:

- إيرادات المرفأ السنوية.

- كل حركة التجارة المطلوبة لبنانيا لتأمين ​الأمن الغذائي​، الصحي، الاجتماعي؛ حيث أن المرفأ كان يضم إهراءات ​القمح​ ومخازن ​الأدوية​ والمعدات الطبية.

ومن الصعب على المرافئ الأخرى التعويض عن الأضرار الحاصلة، فمرفأ ​طرابلس​ الذي تبلغ مساحته حوالي 770 ألف متر مربع، من الممكن أن يكون بديلا مؤقتا؛ وهذه فرصة له لكي يستفيد من هذه المصيبة، ويحسن من مستوى عمله وأدائه لكي يعوّض فارق، أو جزء من فارق، الخسارة التي وقعت من خلال تفجير مرفأ بيروت.

أما بقية المرافئ الموجودة على الساحل اللبناني، وتحديدا مرفأي ​صيدا​ و​صور​، فهي مرافئ صغيرة لا تستوعب حركة اقتصادية مناسبة لتعويض الا ما نسبته قليلة جدا من تداعيات توقف مرفأ بيروت.

تقدر حجم الخسائر المباشرة في المرفأ والحركة التجارية فقط، بحوالي 6 الى 7 مليار دولار، وإمكانية إعادة بناء المرفأ بالطريقة التي كان قائما فيها، هي ربما شبه مستحيلة في ظل ​الوضع المالي​ الذي يعاني منه لبنان. حيث أن حجم التدمير الحاصل في بيروت، حسب ما لاحظنا من خلال جولاتنا ومشاركتنا في مساعدة الناس في المناطق المتضررة، كان هائلا جدا، وستظهر تداعياته تباعا وبأرقام ضخمة جدا من حيث التقدير المالي، لا سيما أن الحديث بدأ عن أبنية آيلة للسقوط، وأخرى متصدعة، في ظل غياب إمكانية إعادة ترميم بعضها، ما يستوجب بالمعنى الهندسي، إزالتها، أي تدميرها، ناهيك عن الخسائر غير المباشرة لأن المنطقة التي أصيبت بشكل مباشر من التفجير، تضم عددا كبيرا من الأبنية الأثرية، التي تحمل تراث بيروت، وتاريخها، وحضارتها، وهذا الإرث التاريخي والتراثي يعتبر ثروة خسرها لبنان من خلال تداعيات هذا التفجير.

- لاحظنا أن المساعدات الدولية للبنان خلال مؤتمر الدعم، جاءت خجولة للغاية. ما هي تفسيرات هذا الأمر؟

وصلت المساعدات خلال مؤتمر الدعم الخاص بلبنان الى 252.7 مليون يورو، وجاء الرقم هزيلا جدا وربما لا يكفي من أجل لملمة الدمار والجراح والنكبة الحاصلة، دون البحث في الدخول بكيفية الإعمار أو البنى التحتية أو إعادة الإنشاءات للمرفأ.

كانت كل التوقعات تشير الى أن لبنان سيحصل على مساعدات سريعة ومباشرة، تصل الى حوالي 800 مليون دولار، لنتفاجأ بحصولنا على نحو 296 مليون دولار فقط، وهو رقم خجول ومتواضع جدا.

هذا الأمر من شأنه أن يؤدي الى تعطيل المرفأ، وتعطيل الدورة الاقتصادية والإيرادات التي كان من الممكن أن تجنيها الدولة من حركة المرفأ. وهذا التعطيل سيستمر لفترة طويلة نتيجة عجز المالية العامة اللبنانية عن أي نوع من الإنفاق على إعادة بنية المرفأ والبنى التحتية.

والأصعب من ذلك، أننا شهدنا خلال مؤتمر الدعم على شبه اتفاق واضح وصريح، أعلن عنه بشكل رسمي على لسان المسؤولين كافة، بما فيهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، راعي هذا المؤتمر، ومفاده أن هذه المساعدات لن تصل الى أيدي المسؤولين أو ​الحكومة اللبنانية​، ما يعتبر بالمفهوم الديبلوماسي والسياسي، بمثابة إهانة بحق السلطة السياسية في لبنان التي فقدت الثقة، وخسرت كل رصيدها، سواء داخليا أو خارجيا.

المساعدات التي ستوزع مباشرة للشعب اللبناني تعني أنها محصورة بمساعدات إغاثية آنية وسريعة، وهدفها فقط لملمة الجراح وليس الدخول في أعمال تطويرية أو بنيوية لإعادة المرفأ الى خريطة العالم.

- ما هو مصير مرفأ بيروت اليوم؟

يخيم المجهول على مصير المرفأ وإمكانية إعادة تشغيله، وأعتقد أن الفترة ستكون طويلة وستمتد الى سنوات، لأن للأسف، على المستوى الداخلي، لم تبادر السلطة الى طرح أي ​خطة طوارئ​ لإدارة الأزمة، أو أي حل يتعلق بإعادة بناء المرفأ وتشغيله.

وفي المقلب الآخر، تبين أن الهدف من مساعدات ​المجتمع الدولي​ ليست لإعادة بناء المرفأ. ومن هنا، نتمنى أن لا تكون هذه المساعدات مشروطة وتحمل في طياتها أسباب سياسية وشروط تنم عن تسوية معينة قد تكون في مكان ما على حساب الشعب اللبناني، بدلا من أن تعمل على إغاثته وإنعاشه.

- هل هذا التضامن الذي أظهره المجتمع الدولي وخاصة الدولة العربية لا يعني فعليا رفع الحصار عن لبنان؟

عند وقوع الكارثة، شهدنا تعاطفا واسعا من الشعوب العربية مع الشعب اللبناني، وليس مع السلطة اللبنانية. لا بل أن تعاطف هذه الشعوب سبق حكامها في المبادرة الى مساعدة اللبنانيين.

ولكن عندما وصلت الأمور الى المسؤولين والرئاسات والقيادات العربية، لاحظنا أن الهدف الأول من توزيع هذه المساعدات، هو تلقف مبادرة الشعوب العربية - مشكورة - بتعاطف مع الشعب اللبناني. وتهدف في المقلب الآخر، الى رفع الآلام عن الشعب، وليس خدمة السلطة السياسية، أو اعتبار هذه المبادرات بمثابة فك للحصار ورفع للطوق المفروض على لبنان نتيجة وجود هذه الطبقة السياسية.

- ما مصيرنا؟ ما مصير اقتصادنا والدولار؟ ماذا ينتظرنا في المرحلة المقبلة؟

دخول المساعدات الى لبنان، ومبادرة المجتمع الدولي لضخ الأموال في السوق للمساعدة في لملمة الجراح، هي من العوامل التي أسهمت في إراحة وضع ​سعر صرف الدولار​ قليلا.

هذه العملية قد تخدم لفترة لا تتعدى الأسابيع، وعند العودة الى المأزق المالي، خاصة مع التداعيات الحاصلة على مستوى الاستقالات والتخبط في السلطة السياسية، سنعود حتما الى الدوامة السابقة، والى المأزق الذي وقعنا به، لا سيما اذا تم طرح موضوع إعادة الإعمار أو مشاركة الدولة في ذلك،... وهنا ستعود المشكلة بشكل أكبر، وستظهر حجم الكارثة المالية.

ما زلنا تحت ظل انتشار وباء "كورونا"، وتعثر المفاوضات مع صندوق الدولي، والمأزق المالي، وغيرها من المشاكل،... فكيف الحال مع مصيبة المرفأ التي حصلت؟

نحن قادمون لاحقا على مشكلة أكبر، تكمن في عودة ظهور ​الأزمة المالية​ التي ستنعكس على سعر الدولار، وعلى الأمن الغذائي، وربما على بعض السلع الأساسية التي ما زال ​مصرف لبنان​ يؤمن الدعم لشرائها بأسعار مقبولة، وبسعر الدولار 1500 ليرة، الذي أعتقد أنه لن يعود موجودا في الأسابيع المقبلة.

"الحالة بالويل"، وعند المصاعب تأتي دائما غيمة مؤقتة للملمة الجراح، تغطي على الأمور الآخرى، ولكن عند انقشاع الغيم تعود المشكلة للظهور وبشكل أفدح وأصعب.