قلب إنفجار المرفأ أمور البلد رأساً على عقب، وأعاد خلط الأوراق من جديد، فما قبل الرابع من آب ليس كما بعده، وهذا ما شاهدناه في الـ 24 ساعة الماضية، حيث ارتفع عدّاد الإستقالات من الحكومة ومن المجلس النيابي، ما يؤشّر إلى ​استقالة الحكومة​ التي باتت قاب قوسين أو أدنى، خصوصاً بعد لجوء بعض الوزراء إلى تقديم استقالاتهم في الساعات المقبلة، لإقتناعهم بأن الحكومة أصبحت عاجزة عن القيام بواجباتها، وهي اليوم في العناية الفائقة.

ولكن ماذا عن المرحلة المقبلة؟

ربما من المبكر بعد الحديث عن المرحلة المقبلة، وعن إمكانية وجود حكومة بديلة، ولكن الأغلبية باتوا مقتنعين بأن هذه الحكومة لم تعد بإمكانها الإستمرار، وأنه لا بد من تشكيل حكومة وحدة وطنية بروح جديدة، وهذا ما شدد عليه ​الرئيس الفرنسي​ إيمانويل ماكرون، خلال زيارته الأخيرة إلى لبنان حيث أكد على ضرورة وجود إتفاق بين الأفرقاء السياسيين على تشكيل حكومة جديدة تهتم بشؤون المواطنين الاجتماعية والاقتصادية والمالية، وتعمل على تنفيذ الإصلاحات، ليأتيها الدعم الخارجي سواء من "​صندوق النقد​ الدولي"، ومن مقررات "سيدر"، والبارحة أعادها الرئيس الفرنسي مجدداً خلال "مؤتمر الدعم الدولي لبيروت" الذي عُقد في ​باريس​، ووافقه كل رؤساء الدول المشاركة، أن لا ​مساعدات مالية​ ولا نقدية ولا إستثمارات في لبنان ما لم تصلح الدَّولة إدارتها ونظامها المالي، وما لم تقفل أبواب الهدر والفساد.

لا شك بأن أي حكومة مقبلة بغض النظر عن شكلها وتركيبتها ستكون أمامها تحديات كبيرة، وفرص حقيقية يمكن استغلالها للنهوض مجدداً بلبنان، وإلا..

من هذه التحديات:

أولاً: العمل على إستعادة الثقة الداخلية، وهذه الخطة ليست بالأمر السهل كما يظن البعض، فالشعب اللبناني من أقصاه إلى أقصاه نفد صبره من الطبقة الحاكمة التي أوصلته إلى ​الفقر​ و​الجوع​.

ثانياً: العمل على استعادة الثقة الخارجية بلبنان، وهذا الأمر يتطلب وجود رئيس حكومة قوي يتمتع بعلاقات دولية وعربية واسعة، وكذلك الأمر وجود حكومة كفوءة مشهود لأعضائها بالنزاهة، بعيدة عن المحاصصات السياسة المعتادة، وأن يكون للحكومة القدرة على تحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية والدولية.

ثالثاً: أن تعمل هذه الحكومة على إعادة لبنان إلى الحضن العربي، والابتعاد عن لعبة المحاور التي لم تجلب للبنان إلا ​الكوارث​.

رابعاً: العمل على تنفيذ الإصلاحات بدءاً من ملف الكهرباء، و​النفايات​، مروراً بإصلاح القضاء وصولاً إلى معالجة الإنهيار الاقتصادي والمالي من خلال عملية تطهير واسعة للقطاع العام، والعمل على ​مكافحة الفساد​ المستشري في الدولة.

خامساً: وضع خطة واضحة لكيفية النهوض بلبنان اقتصادياً ومالياً ونقدياً، فضلاً عن تحديد حجم الخسائر الموجودة اليوم، وهذه الخطوة يجب أن تتم بين الحكومة من جهة، و​مصرف لبنان​ وجمعية المصارف من جهة ثانية.

سادساً: العمل على استكمال المفاوضات مع "صندوق النقد الدولي"  - وذلك بعد وضع الخطة للمرحلة المقبلة - من أجل وضع برنامج حقيقي يستفيد منه لبنان، من خلال أموال الصندوق من جهة، وأموال "سيدر" التي لا تزال مرصودة للبنان من جهة أخرى، التي وبحسب الرئيس الفرنسي مشروطة بإصلاحات حقيقية.

لاشك أن التحديات كبيرة خصوصاً في هذه المرحلة الدقيقة والحسّاسة التي يمر بها لبنان، فقبل الرابع من آب ليس كما بعده، أقلّه في إدارة البلاد التي تعيش منذ 17 تشرين الماضي حالة تخبّط كبيرة، وسط انهيارات متتالية في القطاعات كافة، وإفلاس مالي لم يسبق له مثيلاً.

ورغم التخبط الحاصل اليوم، ورغم الفاجعة الكبيرة التي حلّت بلبنان، إلا أن الأمل لا يزال مُتاحاً للنهوض مجدداً ببلد ​الأرز​ وبأهله واقتصاده، فالكل يعلم أن الأزمة التي نعيشها اليوم هي أزمة سياسية بحتة، إنعكست سلباً على ​الوضع الاقتصادي​ والمالي والنقدي.

فالاقتصاد لا يمكن أن يقوم في ظلّ التخبط السياسي الحاصل، وهذا ما شدد عليه الرئيس الفرنسي عند لقائه المسؤولين اللبنانيين حين قال لهم بصارحة: "يجب تأليف حكومة وحدة وطنية، وفي حال توصّلتم إلى تفاهم على هذه الحكومة، فأنا أضمن لكم تأييداً أميركياً وأوروبياً وسعودياً وإيرانياً"، وبالطبع هذا الأمر إن تحقق، سينعكس إيجاباً على ​الاقتصاد اللبناني​، خصوصاً وأننا أمام فرصة حقيقية للتغيير، في ظلّ وجود فرص يمكن إستغلالها للنهوض مجدداً والسير نحو التعافي.

من هذه الفرص:

أولاً: الدّور الفرنسي الإيجابي، والجميع اليوم يعوّل على الدور الفرنسي خصوصاً بعد الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس إيمانويل ماكرون، ولقائه القيادات اللبنانية، وحثّهم على ضرورة تغيير طريقة إدارة البلاد. صحيح أن هذه الزيارة أتت من باب التضامن مع الشعب اللبناني، ولكن هذا الأمر حمل رسائل سياسية إلى الأطراف كافة مفادها أن التغيير أصبح ملزماً، ولا يمكن الإستمرار بالنهج القديم في إدارة البلاد.

ثانياً: الدّعم العربي والأوربي الذي حظي به لبنان البارحة في مؤتمر "دعم لبنان" والذي وصلت حصيلته إلى أكثر من 250 مليون يورو، صحيح أن هذه ​المساعدات​ ستكون موجّهة مباشرة الى الشعب اللبناني، ولن تمر هذه المرة عبر الطبقة السياسية بل عبر المؤسسات الدولية، إلا أن البيان الختامي للمؤتمر أكد استعداد الشركاء لدعم النهوض الاقتصادي والمالي للبنان شرط التزام السلطات اللبنانية بالقيام سريعاً بالإجراءات والإصلاحات، وهذه فرصة جديدة ويمكن أن تكون الأخيرة من أجل البدء بإصلاحات حقيقية وشفافة.

ثالثاً: تحرّك "صندوق النقد" و​البنك الدولي​ين تجاه لبنان، وهذا الأمر أكدته مديرة الصندوق كريستالينا جورجيفا، التي طالبت بضرورة كسر الجمود في المناقشات المتعلقة بالإصلاحات اللازمة ووضع برنامج جاد لانتشال الاقتصاد اللبناني من عثرته، وإرساء أسس المساءلة والثقة في مستقبل البلاد، وكذلك الأمر بالنسبة لـ "البنك الدولي" الذي أبدى استعداده لوضع خطة إعادة إعمار وفق المعايير الدولية.

رابعاً: دعم المؤسسات الدولية الأخرى للبنان، لاشك بأن هول الفاجعة التي حلت بلبنان كان كبيراً جداً - خصوصاً وأن هذا الإنفجار يُعتبر بحسب الخبراء أكبر إنفجار غير نووي في العالم - لذلك المتوقع أن يحصل لبنان على ​دعم مالي​ جديد من المؤسسات الدولية كـ "​البنك الأوروبي​"، و"المجموعة الأوروبية"، وغيرها من المؤسسات الدولية.

لا شك أن التضامن العربي والغربي الذي يحظى به لبنان اليوم، ليس موجّهاً للطبقة السياسية التي بدأت تروّج منذ زيارة الرئيس الفرنسي إلى لبنان بأن الحصار الذي فُرض على لبنان بدأ ينفك تدريجياً، إلا أن الحقيقية تكمن في أن لبنان كان محاصراً فعلاً ولكن ليس من ​الدول العربية​ والأوروبية، إنما من فساد الطبقة الحاكمة التي أوصلت البلاد إلى الإنهيار التام، فهل تنجح الحكومة المقبلة في وضع لبنان على الخارطة الدولية مجدداً؟