مع تفشي وباء فيروس "كورونا"، فإن تجربة العمل الجماعي عن بعد، تمارس ضغطاً على ​الموارد البشرية​ والتكنولوجية، وهي ترهق الصحة البدنية والعقلية للموظفين، وربما تغيّر طريقة عمل الناس بشكل دائم. لكنها أيضا تؤدي إلى حلول مبتكرة، وحلول لصعوبات ممارسة الأعمال عن بعد والتحديات ذات الطابع الشخصي المتمثلة في العزلة والملل والدمج القسري لحياة العمل والحياة العائلية.

وفي ​ألمانيا​، أنشأت مجموعات من الآباء والأمهات الذين يعملون في شركة "​يونيليفر​" للمنتجات الاستهلاكية، نظاماً افتراضيا لرعاية ال​أطفال​، حيث ترعى جماعة منهم أطفال الآخرين عبر ​الإنترنت​ بينما يستمر الآخرون في أعمالهم.

كما أنشأت شركة لتنظيم المؤتمرات والبث عبر الإنترنت، مساحة افتراضية تتيح للموظفين العمل بجانب بعضهم البعض بشكل منفصل على أنهم ليسوا وحدهم، في محاولة لاستنساخ العمل في مقهى أو مكتب مشترك.

وتقترح الشركة أخذ استراحة لمدة 5 دقائق كل ساعة، لممارسة أنشطة مثل القفز أو تمارين الضغط أو حديثا حماسيا لمدة دقيقة.

بعض مستشاري مؤسسة "ماكينزي"، استخدموا كاميرات المصانع البعيدة في زيارات ميدانية افتراضية، حيث ينضم المشاركون إلى مؤتمر ​فيديو​ عبر "تطبيق زوم"، لتقييم خطط إعادة المنشأة إلى الإنتاج الكامل بعد الأزمة.

وبعد قرار ​الهند​ إرسال مواطنيها إلى ​المنازل​ الأسبوع الماضي، تشير التقديرات إلى أن ما يصل إلى ربع سكان العالم يعيشون الآن تحت شكل من أشكال الإغلاق بسبب فيروس "كورونا". لا يستطيعون جميعا العمل من المنزل، لكن كثيرا من الشركات وجدت نفسها عالقة في مشكلات بسبب حجم الطلب على المعدات والدعم للعاملين عن بعد.

نحو 65 ألف موظف من القوة العاملة البالغ عددها 155 ألف موظف في شركة "يونيليفر" يعملون الآن عن بعد.

وتقول لينا ناير، كبيرة الإداريين للموارد البشرية، إن الشركة "اضطرت إلى شراء ألف جهاز كمبيوتر محمول خلال ليلة واحدة" فضلا عن أجهزة "الدونغل" التي تسمح بالوصول إلى ​شبكة الجيل الرابع​ من الإنترنت، حتى يتمكن أكثر من أربعة آلاف موظف من موظفيها في الهند من العمل من المنزل.

في الوقت نفسه، اضطرت الشركات إلى تفعيل قنوات جديدة للاتصال والدعم للعاملين عن بعد. وقال الرئيس التنفيذي لشركة "​سلاك​" ستيورات باترفيلد، عبر "تويتر"، إنه بحلول منتصف الأسبوع الماضي كانت أداة التعاون عبر الإنترنت قد سجلت 9 آلاف زبون جديد يدفعون اشتراكات خلال الربع الأول، مقارنة بنحو 5 آلاف في كل من الربعين السابقين.

زيادة الاتصال

أحد المخاطر أنه في الوقت الذي تتعامل فيه الشركات مع الأثر التشغيلي للوباء، فالعاملون العالقون في المنزل يشعرون بالإغراء للعمل دون توقف. في الوقت نفسه، يزيد المديرون الاتصال، باستخدام عدة أدوات تشمل مؤتمرات الفيديو و​الرسائل​.

تسلط أزمة فيروس "كورونا" الضوء على أن كثيرا من المديرين غير مجهزين للحكم على العمل الجيد. بدلا من ذلك، يستخدمون الحضور والرؤية كوكيل. هيلين بيدهام، مديرة شبكة مهنية، تقول إنه تقليديا "حتى مع وجود سياسات العمل المرن، لا تزال هناك ثقافة الحضور في الحي المالي في ​لندن​. يتم الحكم عليك من خلال حضورك وجها لوجه وليس ما تفعله. هناك نقص في الثقة لدى المديرين حول كيفية تقييم العمل. الآباء العاملون عن بعد يشعرون أنهم ينطبق عليهم المثل "بعيد عن العين غائب عن البال".

ويغلب على ظنها أن الشخص المتاح لكل مؤتمر فيديو ويستجيب بسرعة لرسائل ​البريد الإلكتروني​ سيستمر تقديره أكثر من الذين لا يفعلون".

يقول بيتر كابيلي، مدير مركز الموارد البشرية في "كلية وارتون"، إن هذا يكشف كيف أن الإدارة لا تزال مدفوعة بالأيديولوجيا.

المبادئ​ التوجيهية الصارمة للعمل عبر الإنترنت هي دلالة على أن المديرين "يعتقدون أن الناس يتقاعسون عن العمل، وينسون أن الناس يمكنهم التقاعس عن العمل في المكتب أيضا".

علي كاظمي، شريك في فريق ​الخدمات المالية​ التابع لشركة "إي واي" البريطانية، يدرك المشكلة. وهو يعيش مع والدته، التي تعاني ظروفا صحية كامنة، وابنه البالغ من العمر 8 أعوام، بينما زوجته الطبيبة تعمل ليلا على خط المساعدة 111 التابع لخدمة الصحة الوطنية.

الآن في الأسبوع الثالث من العمل من المنزل، يقول إن الأمر تطلب بعض الوقت للتكيف: "من السهل جدا أن ينتهي بك المطاف بيوم أطول. بدأت شخصيا بوضع الآليات اللازمة لإبعاد نفسي اجتماعيا عن جهاز ​الكمبيوتر​ المحمول". ما لم تكن هناك حالة طارئة، لا يرد على رسائل البريد الإلكتروني خلال الليل أو في عطلة نهاية الأسبوع. بدأت شركات أخرى في وضع تدابير لضمان أن بإمكان الموظفين التوقف عن العمل.

يقول بريندان ماكفيرتي، الرئيس التنفيذي لشركة "برايت سايد للتأمين" البريطانية، "لاحظت بعد بضعة أيام أنني لم أكن أستريح؛ كنت أستمتع بإغراء استخدام الهاتف باستمرار". تخطط الشركة الآن لتحديد بعض المناطق الخالية من المكالمات في وقت الغداء وبعد الساعة السابعة مساء، بينما أمور العمل العاجلة هي فقط ما يبرر الاتصال بالزملاء.

رعاية الأطفال أثناء العمل

الجمع بين العمل في المنزل وأيضا رعاية الأطفال يعرض الموظفين لضغط أكبر. قال أصحاب العمل لبعض الأمهات إنه يتم منح إجازة للنساء، أو طلب منهن أخذ إجازة أمومة غير مدفوعة الأجر، بينما لم يطلب ذلك من نظرائهم الذكور.

موبين بوتا، رئيس السياسة في مؤسسة "ووركينغ فاميليز الخيرية" للموازنة بين العمل والحياة العائلية، يقول إن مثل هذا السلوك تمييزي ويدعو "أصحاب العمل إلى إجراء محادثات معقولة حول كيف يستطيع الموظفون الذين لديهم مسؤوليات رعاية العمل، ضمن جدول زمني مرن ما يمكنهم من الاستمرار في تأديته".

يشكو كثير من الآباء العاملين الذين يجمعون بين رعاية الأطفال وعدة اجتماعات عبر الإنترنت، أنهم غير قادرين على إنجاز أي عمل مهم حتى وقت متأخر من اليوم.

مسؤولية رعاية الأطفال تجري بشكل مختلف عبر القوى العاملة. في حين أن البعض سيقسمها بالتساوي، إلا أن السيدة بيدهام تقول إنها تلقت شكاوى من ​النساء​ اللواتي يتعين عليهن "استيعاب مكالمات ومذكرات العمل لشركائهن والتقدم والوجود أكثر خلال اليوم، لكن هذا أمر جديد بالنسبة إلى الزوجين، فهو يفرض مزيدا من الأسئلة ومزيدا من الاتصال".

مع استمرار الأزمة، فإن مثل هذه القضايا تصبح أكثر خطورة. بالنسبة إلى البعض، فإن العمل في المكتب مجرد ملجأ. في ​بريطانيا​، هناك تقارير منذ الآن عن ارتفاع معدلات ​العنف​ المنزلي.

أحد الحلول استيعاب المديرين لاحتياجات المنزل والعمل، من خلال الطلب من فرق عملهم الوجود في ساعات محددة بأيام معينة.

الاختلافات الإقليمية

تسلط الأزمة أيضا الضوء على الاختلافات الإقليمية. قال أحد رؤساء الموارد البشرية في مصرف عالمي إن المجموعة تعرف الآن، أن نقل القوة العاملة إلى العمل من المنزل أمر ممكن، بعد أن فعلت ذلك في ​هونغ كونغ​ و​الصين​.

ويقول: "كنا نعتمد عليهما قليلا من أجل التوجيه والدعم، وكان هناك شعور طفيف بين القوى العاملة الآسيوية أن بقية العالم لم يدرك ويلاحظ ذلك، إلا عندما وصل الفيروس إلى عتبة بابهم، فهناك فرق واضح بين الشرق والغرب".

الشركات الأخرى ذات الانتشار العالمي تتعلم من الموظفين في الدول التي تأثرت منذ فترة بفيروس "كوفيد - 19".

الأسبوع الماضي، طلبت شركة "يونيليفر" من قادة الدول في الصين و​إيطاليا​، التحدث إلى القادة الآخرين عن تجربتهم، بما في ذلك كيف أعاد فريق الصين نشر المرافق وتوفير الموظفين لوظائف التصنيع والتسليم عندما أغلقت مكاتبهم.

للحصول على إرشادات حول كيفية التعامل مع هذه الأزمة، شركة "بريتش بتروليوم" أعادت النظر في كيفية تعاملها مع آثار "إعصار هارفي"، الذي أغرق مقرها الرئيس في الولايات المتحدة في هيوستن في عام 2017، ما ألزم خمسة آلاف موظف بالعمل عن بعد، عمل بعضهم طوال عدة أشهر.

ريتشارد هيرون، كبير الإداريين الطبيين في مجموعة ​الطاقة​، يقول إنه يفكر منذ الآن في كيفية التعامل مع التأثير طويل الأمد للعزلة، خاصة على العاملين الذين تبدو وظائفهم - في تنظيم السفر من أجل العمل أو الاجتماعات أو الزيارات الميدانية - زائدة على الحاجة مؤقتا.

المستقبل

من الصعب توقع العواقب طويلة الأجل للعمل الإلزامي عن بعد. ومن المؤكد أن الأزمة تجعل منذ الآن كثيرا من المديرين والعاملين يدركون ما هو ممكن.

بعض من ​الاستثمارات​ الطارئة ستبقى أيضا. نيك أوليس، كبير الإداريين التشغيليين في شركة "دومستيك آند جنرال" لتأمين الأجهزة، يقول إن أجهزة الكمبيوتر المحمول البالغ عددها 900 التي كان عليها شراؤها للسماح لموظفي مركز الاتصال بالعمل عن بعد ينبغي أن تسمح لهم بمواصلة العمل بمرونة أكبر في المستقبل.

"لا ينبغي أن يكون للعمل المرن فائدة واضحة وهي الاحتفاظ بالموظفين فقط وتجنب النفقات العامة المكلفة. يمكننا التحول عند الطلب عند الحاجة. من الصعب تخيل العودة".

يقول سنيدر من "ماكينزي" إن الحالة الطارئة بسبب فيروس "كوفيد - 19" أسهمت في تسريع الشركة "نحو الجيل التالي من الأدوات عبر الإنترنت التي كنا نتحدث عن الانتقال إليها منذ عصور".