ليس تعثر ولادة الحكومة سوى القشرة التي تغلف الازمات الكثيرة في البلد، والتي تتكشف يوما بعد يوم مع كل فضيحة جديدة ، وآخرها فضيحة مجرور الرملة البيضاء. وكما أن تشكيل الحكومة العتيدة تعيقه الحسابات الطائفية والمذهبية معطوفة على التجاذبات الاقليمية ، فان للازمات المعيشية طائفيتها ايضا.

ليس أدل على تحلل الدولة الى كانوتنات ومربعات طائفية ومذهبية ، سوى الاتهامات المتبادلة بالتسبب بانسداد المجرور المذكور وبالتالي انفجار "ينابيع " ​المياه​ الآسنة في شوارع العاصمة يوم الجمعة الماضي ، ف​بلدية بيروت​ برئاسة من لون سياسي طائفي معين ترمي المسؤولية على بلدية أخرى من لون سياسي طائفي آخر ، ولا توفر بعض من المجلس البلدي للعاصمة من تهمة التآمر ، أما محافظة بيروت ، المفترض انها حيادية فتنخرط ايضا في النزاع ، من خلال تفاصيل ووقائع هندسية ملتبسة تزيد الطين بلة. فترتد التهمة اليها مع بلدية العاصمة التي "قامت بإقفال مسارب الصرف الصحي المؤدية الى البحر خدمة لمشاريع سياحية خاصة، بعضها مبني على الاملاك العامة بالتعدي، وتحويل المجاري الى نطاق بلدية الغبيري، ما حول قبل شهر من الان منطقة ​الجناح - السلطان ابراهيم الى مستنقع مياه بسبب هذا الاقفال المريب لاسيما انه جاء قبل تشغيل محطات الضخ، وهذا ما رفضته بلدية الغبيري بشكل جازم". وفقا لكلام المحافظ نفسه.

وعلى الطريق تتبرأ وزارة الاشغال العامة من المسألة برمتها باعتبار ان هذا شأن بلدي .

في خلفية الصورة يحكى عن مستثمر في السياحة من مذهب معين حورب من قبل مستثمرين منافسين من مذاهب اخرى، وتمت تسوية الامر حبيا ، ولكنه ايضا ووجه بحركة احتجاج مدني على سلب الجزء الاخير المتاح من شاطىء بيروت لاقامة فندق ، فربح بمساعدة سلطة ​المحاصصة​ الطائفية .

نقيب ​المهندسين​ الشجاع جاد تابت قالها ​بصراحة​ :" لقد نبهت ​نقابة المهندسين​ منذ أكثر من سنة على ​مخالفة​ مشروع الفندق لأنظمة وقوانين البناء وتشويهه لاحد اهم المواقع الطبيعية للعاصمة. ورفعنا صوتنا عاليا آنذاك مطالبين سعادة المحافظ باتخاذ التدابير الضرورية لتطبيق القانون حفاظا على المصلحة العامة.

لكن لا حياة لمن تنادي، بدلا من ان تتحمل بلدية بيروت مسؤولياتها بإيقاف المشروع سمحت بإنجازه كاملا رغم المخالفات الجسيمة التي أشارت اليها نقابة المهندسين فافتتح فندق "الادن ​باي​" قبل حصوله على رخصة اسكان وسمح له بإشغال الاملاك العامة البحرية، ولم تكتف البلدية بذلك بل نفذت دوارا ضخما في الاملاك العامة لا فائدة منه سوى خدمة لمدخل المشروع. واليوم يتبين انه تم إلغاء المجرور العام الرئيسي الذي كان يصب على مقربة من المشروع وتم سد هذا المجرور بالباطون خوفا من ان يلوث رمال الفندق ويزعج النزلاء بروائحه الكريهة... "هذا ما يحصل عندما يتم تجاهل رأي نقابة المهندسين خدمة للمحاصصات السياسية والتنفيعات الزبائنية، فمن المسؤول؟".

المؤلم انه عندما كان المجرور يصب على المسبح الشعبي الخاص بالفقراء لم يعترض أحد ، ولم تعمل اي جهة على معالجة المياه الآسنة التي يصبها في البحر، وعندما صار الشاطئ ملكية خاصة ، خلافا للقانون ، جرى سد المجرور ، خلافا للقانون ايضا . ولما لا . فوفقا للمنطق نفسه : من يخرق القانون مرة يكررها مرات.

وفي زحمة التنازع الطائفي الطائفي يتناسى الجميع المشكلة الاساس ، وهي كيف يمكن ان نقبل باستمرار تدفق قنوات الصرف الصحي في بحرنا ، قبل معالجتها في المحطات المخصصة لذلك ؟ ولماذا لا يتم تشغيل محطة الغدير المنشأة في العام 2001 ولم تدخل الخدمة يوما .ولماذا لا يجري اقامة محطات أخرى؟

يقال ان التمويل غير متوفر ، وربما علينا ان ننتظر تطبيق مقررات مؤتمر "سيدر " والحصول على القروض الموعودة والمقرر صرفها على البنى التحتية ، ومنها محطات معالجة المياه المبتذلة. ولكن هذا لا يبرر عدم تشغيل المحطات الموجودة ومنها محطة الغدير، ول تطلب اصحلاها بضعة ملايين من الدولارات .

هل هذه دولة أم حارة "كل من ايدو الو".اذ يبدو ان الهيمنة السياسية والمسلحة ،ضمنا وعلنا ، على المناطق اللبنانية، وتقسيمها امارات على امراء الحرب والمال والسلطة ، كامر واقع ، بدأت تنسحب على المؤسسات العامة ، من محافظات وبلدياة ووزارات ، وحتى على قطاع الاعمال من خلال فرز المستثمرين على اساس طوائفهم ومذاهبهم .

والحال في المناطق ليس بافضل من العاصمة. هنا تتنازع بلديات متجاورة على الصلاحيات والمسؤوليات، وتتبادل الاتهامات . وفي الانحاء اللبنانية المختلفة نشهد نزاعات مماثلة ، على مشاعات القرى ، وعلى مشاريع شق الطرقات ، او اقامة المقالع والكسارات والمعامل. ولنذكر انه خلال ازمة ​النفايات​ الشهيرة ، واثناء رحلة البحث عن اماكن مناسبة للمطامر ، رفضت البلديات تحمل عبء نفايات الآخرين. وصار للنفايات هوية طائفية ومذهبية.

قوى الامر الواقع التي كرستها الانتخابات النيابية الاخيرة ، للاسف ، ليست الممثل المثالي للناس ، فمشاكل تلوث المياه والمزروعات والهواء والاراضي تخرج الى العلن على الدوام، وخصوصا ازمة تلوث ​نهر الليطاني​، ويخشى ان تتحول الى مسألة طائفية ، فالنهر يمر في مناطق مختلفة مذهبيا من البقاع الى الجنوب ، ويلوثه اصحاب مصانع ومنشآىت من الوان مذهبية مختلفة. وكل قوى الامر الواقع لا تفعل ازاء هذه الازمة او غيرها سوى رمي المسؤولية على الدولة التي سبق لها ان صادرتها واسقطت هيبتها.

لا يبقى في الميدان للمواجهة سوى المجتمع المدني . فهل يجرؤ ؟