تُظهر الأرقام الصادرة عن وزارة المال أن العجز في ال​موازنة​ على الأشهر الأربعة الأولى من هذا العام بلغت 1.92 مليار د.أ. وهذا يعني أنه وبنهاية العامّ، فإن هذا العجزّ مُرشّح أن يتخطّى العجز المُتوقّع في موازنة العام 2018 بمليار د.أ. هذا العجز الذي يعود إلى زيادة الإنفاق وتراجع ال​إيرادات​، على الرغم من ​ضرائب​ سلسلة الرتب والرواتب، لا يُمكن محوه إلا بمحاربة ​الفساد​.

صادمة هي أرقام وزارة المال خصوصًا عندما يعرف القارئ أن إيرادات الدوّلة ال​لبنان​ية لم تعدّ تُغطّي حتى البنود الأكثر إستنزافًا للخزينة أي بند ​الأجور​ والتعويضات، بند خدمة ​الدين العام​ وبند دعم مؤسسة ​كهرباء لبنان​. والأصعب في الأمر أن الدوّلة لا يُمكنها فعل شيء في ما يخص بند خدّمة الدين العام نظرًا إلى أنه نتاج الإنفاق على الأجور و​الكهرباء​ ولكن أيضًا (وهذا حديث) النفقات التشغيلية.

كتلة الأجور في ​القطاع العام​، إرتفعت من 3583 الف مليار ليرة لبنانية في العام 2007 إلى 7604 في العام 2017 ومن المُتوقّع أن تصل إلى 8364 ألف مليار ليرة لبنانية في العام 2018 أي ما يوازي نصف إيرادات الدوّلة تقريبًا. كل هذا جرّاء ​التوظيف​ غير المدروس والعشوائي الذي تقوم به مؤسسات الدوّلة ووزاراتها. فقد إرتفع عدد العاملين في القطاع العام بقيمة 30 ألف موظّف في السنوات الثلاث الأخيرة منها خمسة ألالاف منذ إقرار سلسلة الرتب والرواتب والتي نصّ قانونها على وقف التوظيف في القطاع العام. بالطبع هذا التوظيف آتى بسبب الإنتخابات النيابية ورغبة القوى السياسية بإرضاء المناصرين لها.

يقولون أن هناك نقص في بعض إدارات الدوّلة. هذا الأمر لا يُبرّر قطعًا اللجوء إلى التوظيف خصوصًا أن هناك الكثير من الإدارات التي تعجّ بالموظفين من دون حاجة فعلية لهم. لذا من الضروري وقف التوظيف فوّرًا لأي سبب كان تحت طائلة تفريغ ​القطاع الخاص​ المُنتج لصالح قطاع عامّ ذو إنتاجية مُنخفضة وزيادة ​الإنفاق العام​!

لعنة الكهرباء تُرافق لبنان منذ الحرب الأهلية مع تكاليف باهضة لا تعكس أبدًا الخدمة المؤمّنة. فأرقام وزارة المال تُشير إلى أن الدعمّ التراكمي لمؤسسة كهرباء لبنان منذ العام 2007 وحتى يومنا هذا هو 18.5 مليار دولار أميركي. وهذا الرقم كفيل بتأمين 18500 ميغاوات لو تمّ بناء معامل به (حاجة لبنان هي 3500 ميغاوات). من هذا المُنطلق نرى أنه مهما كانت الأسباب التي منعت إنشاء هذه المعامل، يجب وقف هذا النزف المُرشّح للإزدياد مع توقعات شبه أكيدة بإرتفاع ​أسعار النفط​ عالميًا كنتيجة للعقوبات الأميركية على ​النفط الإيراني​ والتي تدّخل حيّز التنفيذ في 4 تشرين القادم.

النفقات التشغيلية والتي تضمّ في المبدأ ما هو ضروري لتشغيل الدوّلة ويتضمّن اللزومات الإدارية والتنقّل و​الإيجارات​... أصبح 13% من إجمالي الإنفاق العام بعد أن كان يُشكّل 8.6% في العام 2015. وتُشير توقّعاتنا إلى أن هذه النسبة سترتفع إلى 18% في نهاية العامّ 2018. هل هذا الأمر مقبول؟ كيّف يُمكن لدوّلة تواجه مشاكل مالية أن تستمر بالصرف على نفس الوتيرة كما وأن شيئًا لم يكن؟ ألا يتوجّب عليها على الأقل وضع موازنة تقشّفية؟

إن حساباتنا تُشير إلى أن الهدّر غير المقصود (سوء إدارة) يُحمّل الدوّلة مبالغ تفوق المليار ونصف دولار أميركي أي ما يوازي 10% من قيمة العجز في ​الموازنة​. أضف إلى ذلك فإن محاربة التهرّب الضريبي كفيلة بتأمين 4 مليار د.أ (7.2% من الناتج المحلّي الإجمالي) مما يعني أن هذين الإجرائين وحدهما كفيلان بمحو عجز الدوّلة، فكيف إذا تمّ وقف التوظيف وحلّ مُشكلة الكهرباء؟ في هذه الحالة فإن الدوّلة ستتمتّع بفائض في الموازنة بعدّة مليارات من الدولارات كفيلة بالنهوض بالإقتصاد.

إن محاربة الفساد والهدر في الإدارة العامّة لم تعدّ خيار أمام السلطة السياسية، فالإستمرار على هذا النهجّ يرفع من الدين العام ومعه خدّمة الدين العام. وبغياب النمو الإقتصادي، لن تستطيع الدوّلة زيادة إيراداتها الضريبية مهما زادت الضرائب. الجدير ذكره أن القول بأن "الوضع الإقتصادي هو المسؤول عن وضع المالية العامّة" هو أمر مردود للقائل، ففي الأعوام 2007 إلى 2010 حين كان الإقتصاد يُسجّل نسب نمو تفوق الـ 9%، كان الدوّلة تُسجّل عجزًا في الموازنة مع العلم أن هذه النسب من النموّ تفوق نسبة الفائدة على الدين العام!

إن الإدارة المالية للدوّلة اللبنانية لم تعدّ صالحة وإنتهت مدّة صلاحيتها بحكم التردّي بالخدمات التي تقوم بها الدوّلة بكلفة ترتفع سنويًا. فمن ملف الكهرباء إلى ملفّ ​النفايات​ مرورًا بملف الصحّة، الصرف الصحّي، تلوّث ​المياه​... نرى أن اللبناني يُحمّل ديونًا لا يستحصل على خدمات مُقابلها وبالتالي فإن تحميله هذه ​الديون​ هو جريمة بحقّه.

من هذا المُنطلق، نرى أن على السلطة السياسية التمتّع بالشجاعة لتأليف الحكومة بأسرع وقت مُمكن والقيام بمحاربة الفساد. وكل تأخير في هذا الأمر، ستتحمّل القوى السياسية مُجتمعة المسؤولية عن النتائج التي ستترتب عن زيادة الدين العام.

في الختام، نرى أن التشهير بالإقتصاد وبالليرة اللبنانية ينّمان عن سوء نيّة بحكم أن الإقتصاد لن ينهار بل هو في حال ركود بإنتظار الإستثمارات من مؤتمر سيدر 1، أما الليرة فهي مُحصّنة إلى أبعد الحدود ولا خوّف عليها.