في الملامح العامة المعروضة في قصر بعبدا أمس لـ"الخطة الاقتصادية الوطنية" التي أعدتها "​ماكنزي​ اند كومباني" ، تبرز نقاط هامة حول ضرورة التركيز على قطاعي الزراعة و​الصناعة​ ، كقطاعين منتجين مهملين تاريخيا في لبنان ، وقطاع ثالث ، جديد نسبيا ، هو اقتصاد المعرفة والابداع.

من المعروف ان ​الاقتصاد اللبناني​ خدماتي ريعي ، وقد بينت التجربة اللبنانية منذ الاستقلال الى يومنا هذا، أن النمط الريعي والمحافظ يمتلك من المناعة ما مكنه من تحقيق فوائض مالية في مرحلة ما قبل الحرب اللبنانية. وحين اندلعت الحرب ، حافظ القيمون على الريوع الاقتصادية على مصالحهم وقاموا بتمويل عملية الانتقال ، او التكيف ، فنشأ اقتصاد الحرب. وفي مرحلة ما بعد الطائف، جرى التوسع في إنتاج الريوع العقارية والمالية، فأكلت ما تبقى من بقايا الاقتصاد المنتج ، زراعة وصناعة ، ليختنق جزء كبير منه .

والاقتصاد اللبناني فريد من نوعه ، فعلى الرغم من عدم مقدرته على إحداث تغيير ايجابي في نوعية حياة اللبنانيين ، من خلال خلق فرص عمل جديدة ، وباستمرار، لاستيعاب اليد العاملة الماهرة، على سبيل المثال ، الا إنه محصن في وجه الانهيار الكلي. وغالبا ما تتدخل المؤسسات الضامنة (الخاصة والعامة) في اللحظات الحاسمة لتمنع السقوط الكبير والافلاس. (يقال ان في لبنان لا أحد يجوع) . وأحيانا يأتي التدخل من الرعاة الإقليميين. فالعلاقة بين السلطة والاقتصاد في لبنان هي علاقة عضوية. فلا الاقتصاد يمكنه أن ينمو بما يهدد نظام المحاصصات الطائفية القائم، كما يقول الدكتور ​نزار يونس​، ولا البنية السياسية يمكن أن ​تهدد​ مصالح المجموعات المسيطرة على علاقات إنتاج الريوع وإعادة تدويرها.

بطبيعة الحال فان اهمال الزراعة والصناعة كقطاعين حيويين يؤمنان فرص العمل الدائمة ، لا يعود الى اسباب بنيوية ، فلا الاراضي الزراعية قليلة ، ولا المبادرات الخلاقة صناعيا تنقصنا . ولكن القرار سياسي بالدرجة الاولى ، تتعلق بطبيعة النظام السياسي نفسه .

من هنا تشكل الخطة الجديدة مناسبة لتغيير هذا الواقع ، وتحديدا لاعطاء الزراعة والصناعة الاولوية ، فالسياحة لا تكفي لبناء اقتصاد وتحقيق نمو مستدام ، ولا ​القطاع المصرفي​ الطفيلي الذي يعتاش من فوائد ​الدين العام​ ، ولا يستثمر في القطاعات المنتجة ، يمكن ان يبني اقصادا قويا .

تقترح دراسة ماكنزي في الزراعة، رفع انتاجية صغار المزارعين للمحاصيل الحالية، من خلال اعتماد التكنولوجيا والاساليب الزراعية الحديثة وتغيير انواع البذور. والاستفادة من الامكانيات التصديرية للمزارعين التجاريين، من خلال تحسين معايير الجودة والانتقال الى المحاصيل ذات القيمة الاعلى.

هذا جيد بالعموم ولكنه غير كاف ، وينتظر ان تحدد الدراسة آليات اكثر دقة للانتقال من قطاع يقوم بمعظمه على صغار المزارعين ، الى التعاونيات الزراعية الكبيرة التي تستثمر مساحات اوسع بكثير ، بما يمكنها من استخدام اوسع للتكنولوجيا غالية السعر ، وانشاء المصانع الزراعية ، والتي لا يحتملها المزارع الصغير. وهذا جزء يسير من سياسة زراعية طويلة الامد مطلوبة تجعل لبنان يحقق الاكتفاء الذاتي أولا ، ويمتلك فائضا هاما للتصدير .

أما في الصناعة فتقترح الدراسة تركيز الجهود على اربعة قطاعات صناعية ذات اولوية: تصنيع الاغذية والمنتجات التي تعتمد على قدرات التسويق على غرار العطور ومستخدمات التجميل وغيرها...، قطاع الادوية، وانظمة البناء الحديثة (اي الابنية المسبقة الصنع)، انشاء اربع مجمعات صناعية تتوفر فيها امكانيات التنافس على المستوى الاقليمي من ​بنى تحتية​ وخدمات ​مساندة​.

في الواقع يحتاج لبنان إلى سياسة صناعية داعمة قادرة على تأمين استفادة على النحو الأمثل من فرص التصنيع. وتُعد هذه الاستراتيجية أساسية لتطوير البلاد من أجل استحداث وظائف عالية التعقيد (sophistication)، وتفادي ​هجرة​ الأدمغة. ويجب على الحكومة، أن تطلق مبادرات محددة ترشد إنتاج منتجات جديدة متطورة في المجالات التي يتمتّع لبنان فيها بميزة مقارنة. وتتمثل إحدى السبل لصياغة وتنفيذ سياسات مماثلة في ​آلية​ دائمة من الحوار بين القطاعين الخاص والعام، من شأنها أن ترفع مستويات المساءلة والشفافية على مستوى الجهود والإجراءات الهادفة إلى تعزيز الصناعة اللبنانية. ولا بد من التذكير أخيرا بضرورة وضع سياسة جمركية حمائية لهذه الصناعة .

فرصة التغيير والنهوض بالاقتصاد متاحة بوجود رئيس للجمهورية صاحب رؤية مثل العماد ​ميشال عون​ ، لاطلاق عقد اجتماعي اقتصادي جديد ، يرتبط بوجود رؤية استراتيجية انمائية (قد تكون دراسة ماكانزي احدى دعائمها )، تنهض بالاقتصاد الوطني وتخرجه من دائرة الركود الطويل الاجل. ومن مرتكزات هذه الرؤية: التحرير التدريجي للاقتصاد اللبناني من حالة التشبع الريعي، المالي والعقاري، والاستثمار بكثافة في قطاعي الزراعة والصناعة ، وفي ما تبقى من ​ميزات​ نسبية للاقتصاد اللبناني في عالم متغير عربيا واقليميا ودوليا، كالسياحة ايضا وايضا ، وتحفيز ​القطاع الخاص​ وتوجيهه نحو مجالات تخصص ذات قيمة مضافة عالية، كالاقتصاد المعرفي، واستنهاض الاستثمار الحكومي في المرافق و​الخدمات العامة​ الاساسية، بالشراكة الحقيقية مع القطاع الخاص.

لقد أكد الرئيس عون ، عن حق ، "قدرة لبنان ممثلا بقطاعاته الاقتصادية وطاقاته الشابة، على ايجاد بيئة اعمال جاذبة للاستثمارات الخارجية المباشرة، وعلى تفعيل قطاعات انتاجية تنافسية قادرة على تعزيز مؤشرات الاداء الاقتصادي"، والمأمول أن تعطى القطاعات المنتجة حقها هذه المرة ، وخصوصا الزراعة والصناعة .