إنه لمن المؤسف أن تعمد بعض القوى السياسة إلى إستغلال مؤتمر دولي بأهمية سيدر 1 لأسباب إنتخابية وسياسية. فقد قام أحد الأشخاص خلال الإجتماع التحضيري ل​مؤتمر سيدر​ 1، بإنتحال صفة خبير صندق ​النقد الدولي​ وقام بإلقاء كلمة شكّلت ضربة كبيرة لمصداقية ​لبنان​ العالمية التي أصبحت أكثر من أي وقت مضى بحاجة إلى ترميم.

وقبل الغوص في التفاصيل، نودّ القول أن هذا المقال لا يهدف إلى إلقاء التهم أو التهجّم على أحد، بل إلى طرح بعض الأفكار للخروج من أزمة المصداقية التي وقع فيها لبنان بسبب الأداء السياسي.

البعد​ النظري

المصداقية هي عبارة عن مفهوم يُعبّر عن مدى تقبّل رسالة أو شخص من قبل الأخرين، وتحوي على شقين: موضوعي وشخصي (أو غير موضوعي). وتُترّجم المصداقية عمليًا بمستوى الثقة الممنوحة كما والخبرة الذين يتضمّنان مقاييس موضوعية (مثل الشهادات) وذاتية (مثل الكاريزمة).

هناك عدّة ​تطبيقات​ لمفهوم المصداقية وعلى رأسها المصداقية الصحافية، الأكاديمية، العلمية، الطبّية، السياسية، مصداقية في الأعمال،مصداقية في الشارع... وقد نمّذجها العالم هابرماس في نظريته (communicative action) بإطار مقسوم إلى مرحلتين وحدّد أربعة عوامل لتمييزها: الحقيقة، الصدق، الملائمة، والفهم.

الأسواق المالية​ كانت أوّل من أعطّى ترجمة فعلية لمفهوم المصداقية في الحياة الإقتصادية حيث يُمكن القول بكلّ بساطة أن المصداقية تُبنى على أساس التجربة الماضية والتي على أساسها يُمكن التعاطي مع الشخص أو الكيان. بمعنى أخر يقوم الشخص أو المؤسّسة بالتصريح عمّا سيقوم به ومن ثمّ يقوم بتنفيذ ما قاله وبالتالي تُقاس المصداقية بمدى تطابق ما تمّ قوّله وما تمّ فعله. وهذا ما نلحظه في أداء ​حاكم مصرف لبنان رياض سلامة​ الذي قال على مدى 23 سنة أن الليرة ثابتة ونفّذ ما قاله.

المصداقية السياسية

في ستينات القرن الماضي، ظهرت إلى العلن في الولايات المُتحدة الأميركية عبارة "فجوة المصداقية" (Credibility Gap). هذه العبارة التي إستخدمتها صحيفة الهيرالدتريبيون في العام 1965، إنتشرت سريعًا في الصحافة وفي الخطاب السياسي، وآتت لتصف "الأكاذيب" التي إستخدمتها إدارة الرئيس جونسون (1963-1969) بشأن سياستها المُتبعة في حرب ​فيتنام​. وكان إستخدام هذه العبارة في كل مرّة للقول أن ما يرويه ​السياسيون​ للجمهور هو عبارة عن أكاذيب. واليوم تُستخدم عبارة "فجوة المصداقية" لوصف الفجوة بين ما يقوله السياسيون وبين الوضع الفعلي.

بقول الباحث بينستر أن رأس المال السياسي للقائد هو عبارة عن مجموعة من "المهارات"، "العلاقات" و"السُمعة" لهذا السياسي. هذا التصور المفاهيمي لرأس المال السياسي للقائد يشبه إلى حدٍ كبير سمات "الكفاءة"، "الثقة" و"الرعاية" التي يحتاج إليها السياسي لكيّ يتمتّع بالمصداقية.

من هذا المُنطلق، فإن المصداقية تستلزم من مُستلم الرسالة (البيئة التخويلية) حكماً حول مصداقية المتحدث، وهو بالتالي مفهوم علائقي إذ أن الأمر متروك للجماهير لإعطاء المصداقية للقادة السياسيين. بمعنى أخر هناك تشابه كبير بين رأس المال السياسي والمصداقية لدرجة أن المصداقية في المجال السياسي تُعتبر رأس المال السياسي، وهذا ما أثبته الباحث الهولندي فان زويدام في دراسة تعود للعام 2014 حيث يستخدم نموذج درامي للتأطير (مُستخدم في عالم المسرح) بهدف دراسة مصداقية السياسيين في الإنتخابات البرلمانية الهولندية للعام 2010.

المجتمع الدولي​ ومصداقية السياسة في لبنان

في الإجتماعات التحضيرية لمؤتمرّ سيدر 1، قام لبناني (إنتحل صفة خبير من ​صندوق النقد​ الدولي) بالقاء كلمة يشرح فيها الوضع اللبناني حيث أسدّل ستارًا تعيسًا عن الأداء اللبناني في المجال السياسي وخصوصًا من ناحية المصداقية.

ويظهر من خطابه أن الطبقة السياسية منذ ​باريس​ 1 وحتى يومنا هذا، لم تلّتزم بما وعدت به إتجاه المُجتمع الدولي وبالتالي فإن لبنان لا يستحق أن يطلب تمويل من المُجتمع الدوّلي. بالطبع هناك العديد من النقاط التي أوردها خصوصًا على صعيد الشق الإقتصادي وبالتحديد التهرّب الضريبي، لكن موضوع هذا المقال محصور بأزمة المصداقية التي وضع لبنان و​الحكومة اللبنانية​ فيها، لذا سنكتفي بالحديث عن المصداقية.

عوامل عديدة منعت الحكومات المُتعاقبة من تحقيق وعودها الدولية في مؤتمرات باريس 1، 2، و3 وعلى رأسها الأحداث الأمنية من إغتيال الرئيس رفيق الحريري وصولًا إلى فجر الجرود مرورًا بأحداث 7 أيار والتفجيرات في العام 2013 و2014 وكل هذا بحجّة الحفاظ على السلم الأهلي.

لكن هناك بعض الأمور الإصلاحية التي كان بمقدور ​الدولة اللبنانية​ القيام تُظهر حسن نيتها مثل محاربة ​الفساد​ وإقرار ​الموازنة​ والإنماء المتوازن وإصلاح قطاع الكهرباء التي من المفروض أنها تتخطّى البعد السياسي وتتخطّى حجّة "المُحافظة على السلمّ الأهلي". وهنا يُمكن طرح بعض الأسئلة المشروعة: هل ملاحقة فاسد في منصب مُعيّن، يضرب السلّم الأهلي؟ لماذا لم يتمّ ملاحقة الفاسدين؟ لماذا لمّ يتمّ إقرار موازنات منذ العام 2006 وحتى العام 2016؟

لذا ومن وجهة نظر المُجتمع الدوّلي فقد لبنان مصداقيته السياسية وبالتالي يتوجّب عليه إستعادتها. أمّا الإهتمام الدوّلي الحالي بدعم لبنان فما هو إلا نتاج عوامل ​جيو​ إستراتيجية وعلاقات بعض أصحاب النفوذ.

المصداقية، قول وفعل

إن المهمّة الأساسية لحكومة ما بعدّ الإنتخابات تكمن في وضع خطّة لتنفيذ ما إلتزمت به في مؤتمر سيدر 1. هذه الطريقة هي المدّخل الوحيد لبدء إستعادة ثقة المُجتمع الدوّلي.

ثانيًا، معالجة مُشكلة الفساد إذ يتوجّب على الحكومة وضع خطّة فعّالة لمكافحة الفساد في كل إدارات الدوّلة ومؤسساتها ووزاراتها مع رفع الغطاء عن الفاسدين أينما وُجدوا وتعزيز سلطات الرقابة والأهمّ ضمان إستقلالية القضاء. وهذا الأمر من المفروض أنه لن يُشكّل مُشكلة بحكم أن كل الأحزاب اللبنانية تعهّدت في حملاتها الإنتخابية بمحاربة الفساد.

ثالثًا، المفروض على الحكومة أن تولي الشقّ الإقتصادي مكانة مُهمّة في برنامج عملها والإنكباب على درس خططّ إقتصادية لإعادة هيكلة الماكينة الإقتصادية، محوّ ​الفقر​، والإرتقاء بالمجتمع اللبناني إلى درجات تُنافس المجتمعات الدولية. هذا الأمرّ مُبرّر بالنظرية الإقتصادية بأن كل سياسية لا يكون محورها الإنسان، لا يُمكن أن ترتقي إلى مستوى تسميتها بالسياسة الإقتصادية.

في الختام لا يسعنا القول إلا أنه يتوجّب علينا الإستفادة من فرصة تاريخية تتمثّل بدعم دولي للخروج من نفق الفساد والنهوض بالإقتصاد اللبناني كما والترفّع عن المناكفات السياسية التي تضرّ بالكيان اللبناني ولنجعل حكمّ التاريخ علينا حكم "شعب عظيم".