لم يكن ينقص قطاع ال​كهرباء​ في ​لبنان​ سوى ادخاله في البازار الانتخابي للقوى السياسية المؤتلفة والمتنازعة داخل الحكومة ، معطوفا على مزايدات شعبوية ممن فوتوا قطار السلطة ، أو ممن ركبوه بحكم العادة والارث والتقليد.

هذا ما تشي به مناقشات الحكومة حول بواخر استئجار الكهرباء ، فبغض النظر عن الآراء المختلفة وصوابيتها ، فان القصة ليس قصة رمانة بل هي حفلة مزيدات وتحد على ابواب الموسم الانتخابي .

من دون مبالغة بات يحتاج علاج أزمة الكهرباء جذريا الى ثورة شعبية عارمة تطيح كل هذه الطبقة السياسية ، وليس أقل من ذلك ، فاذا كانت الثورات تحدث في دول العالم لاسقاط الانظمة ، لا لمعالجة ازمة فرعية كازمة الكهرباء ، فان خصوصية لبنان وفرادته بنظامه السياسي الهجين ، يستوجب ثورة لكل قطاع من قطاعاته ، والاصح القول ان العفن الذي يضرب كل قطاع فيه كاف لقيام الثورة.

مشكلة الكهرباء ليست تقنية ، وليست مالية ، وليست ادارية ، وانما هي ساحة صراع يريدها اللاعبون مفتوحة لخوض منافساتهم ، وكسب الشعبية بالمزايدات والتنظيرات ، بالاضافة الى تكديس مئات ملايين الدولارات من المال العام المسروق ، على حساب الخزينة وجيوب المواطنين.

الانقسام السياسي هو أول وأهم اسباب هذه الازمة المزمنة ، اذ شهدنا منذ العام 1990 ، التاريخ الرسمي لنهاية الحرب الاهلية ،وحتى اليوم سلسلة خطط طموحة للنهوض بقطاع الكهرباء ، وكلها خطط جيدة ، تستنسخ بعضها ، ولكنها في المحصلة تعتمد خيارات ممكنة التحقيق لو توفرت الارادة السياسية لذلك.

الا ان ما جرى منذ ذلك التاريخ هو اسقاط الخطط الواحدة تلو الاخرى ، اما نتيجة لتبدل الحكومات ، واما للشلل المتعمد لمؤسسات الدولة ، واما لان قوى الامر الواقع احبطت التنفيذ، لاسباب سياسية بالدرجة الاولى.

في البلاد حيث توجد دولة ومؤسسات ثمة قاعدة ذهبية تفيد ان الحكم استمرار ، وان خطط التطوير والتحديث التي تخص المرافق العامة لا تتأثر بالتقلبات والاهواء السياسية ، او البازارات الانتخابية . وفي النقطة الاخيرة ، اي الانتخابات ، فان العكس هو الصحيح ، فالمشاركون في الحكم يسألون عند فتح صناديق الاقتراع عن وعودهم التي وصلوا على اساسها ، اي ان المحاسبة الشعبية تطال ما لم ينفذ من خطط سابقة ، أما عندنا ولان الانتخابات هي "قم لاجلس مكانك " ، فهي مناسبة لاحباط خطط تطوير ، واجهاض مشاريع تحسين .

قلنا في البلاد حيث توجد دولة . في لبنان لا يوجد دولة .

الطائفية هي السبب الثاني ، لازمة الكهرباء ، وهذا ما تؤكده تقارير البنك الدولي كلما اصدر دراسة عن لبنان .

فالقوى السياسية الحاكمة هي في الاساس قوى طائفية ، تبحث عن ارضاء جمهورها الطائفي والمذهبي ، ولا تسعى لمصلحة وطنية عليا . هذا التوجه برز في مناقشات العقود الاخيرة لمسألة بناء معامل انتاج تزيد بشكل جذري الطاقة فتنتفي الحاجة للتقنين . فقد شد كل طرف باتجاه منطقته وطائفته لبناء المعمل "عنده" ، واذا ارتؤي البناء في منطقة ما ، يجب بالتوازي البناء في المنطقة "المقابلة ". واذا لم طيبق هذا المبدا واختيرت منطقة بعينها لاستضافة المعمل سارعت القوة المهيمنة فيها الى تعطيله.

واليوم نشهد فورة جديدة من الطلبات الخاصة لبناء معامل كهرباء ، يقف خلفها متمولون مدعومون من احزاب تسعى لاسقاط مركزية الكهرباء ، واستبدالها بفيدرالية الطاقة ، انتاجا وتوزيعا ، وصولا الى الجباية . هذه المشاريع الطموحة قد لاتكون سيئة تقنيا وواقعيا لانها قد تؤمن الكهرباء ، الا ان نفسها الطائفي يثير شبهات تقسيمية تذكر بماض اليم .

هذا من جهة ، ومن جهة ثانية ، فان الاحزاب الحاكمة عندنا هي من النوع الذي يعيل جمهوره ، وليس العكس ، كما في البلاد المتحضرة ، حيث الجمهور والمناصرين والمنتسبين هم الذين يتبرعون او يدفعون الاشتراكات لاحزابهم لتمويلها.

وان يعيل الحزب الطائفي طائفته يعني ان يقدم لابنائها ،من اجل ضمان الولاء الوظائف والاعاشات والتنفيعات والخدمات ، وقد كان القطاع العام ، وخصوصا قطاع الكهرباء ، البقرة الحلوب لكل هذه الخدمات.

لدينا امارات طائفية وليس لدينا دولة .

المافيات هي السبب الثالث لتجذر ازمة الكهرباء ، فهل يعقل ان الدولة بضخامة جهازها البشري والمادي ، وموازنتها السنوية المقدرة بـ 15 مليار دولار ، تنتج 2000 ميغاوات كهرباء فقط، في حين تنتج المولدات الخاصة التي تمتلكها المافيات السياسية – الميليشياوية – الاجرامية ، 1500 ميغاوات.

والمفارقة المؤلمة ان الفئة الثانية من منتجي الكهرباء ، اي اللصوص يكدسون حوالي ملياري دولار سنويا كارباح ، في حين ان الدولة تكدس المبلغ نفسه ولكن كدين عام ، في ظل تهاوي الاسعار وارتفاع الكلفة ، والسرقة الموصوفة من قبل اصحاب المولدات لجزء هام من انتاج معامل مؤسسة كهرباء لبنان ، وبيعه للمستهلكين باستخدام شبكاتها ، عدا عن استهلاك هذه الشبكات ، وما يقتضيه من تكاليف صيانة وتجديد.

هذه المافيات صارت شركات متخصصة ومحترفة فصادرت ما للدولة ، فالدولة غير موجودة.

الادارة هي السبب الرابع ، اذ كيف يعقل ان تبقى ادارة مؤسسة كهرباء متربعة على عرشها منذ عقود ، مع توالي عشرات وزراء الوصاية ، وواقع الكهرباء من سيء الى اسوأ . والاتهام ليس موجها الى اشخاص الادارة ، فهذا موضوع آخر ، فقد يقال ان الاسباب الثلاثة الاولى التي اوردناها في هذه المقالة تنفي عنهم مسوؤلية الاهمال أو التقصير أوسوء الادارة ، ولكن أليس من المفترض أن تعمل الادارة بما لديها لادارة القطاع على أفضل وجه ، رغم الازمة العامة التي تمر بها البلاد ؟ أليس هذا ما فعله ويفعله حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ، بابتداع الهندسات المالية للحفاظ على استقرار الليرة ، وبحسن ادارة السياسة النقدية في بلد مأزوم حتى العظم؟

ولعل في مشكلة سوء الادارة ما يعيدنا الى الانقسام السياسي الذي حال ويحول دون تنفيذ القانون 181 بانشاء هيئة ناظمة لقطاع الكهرباء وتعيين مجلس ادارة جديدة لمؤسسة كهرباء لبنان .

الدولة غير قادرة على محاسبة ادارة وتعيين بديل عنها ، ليست دولة .

الفوضى هي السبب الخامس ، اذ ان شبكة الكهرباء تعاني من تعديات هائلة ومهولة ، فنجد مناطق باكملها تسرق الطاقة ، وتقيم شبكات موازية لتحويلها الى مشتركين ينقسمون الى فئتين ، الاولى فقيرة معدمة في احياء شعبية بائسة ، والفئة الثانية ، من اصحاب النفوذ والقرار بقوة السلاح او بقوة الحماية السياسية.

الفوضى صارت ثقافة ، وهي منظمة تحت اشراف قوى الامر الواقع ، وليس المقصود المناطق ذات لون طائفي ومذهبي معين ، وانما هي موجودة حيث الدولة غائبة ، وهي غائبة بالفعل عن انحاء كثيرة للغاية من ارض الوطن.

الجزر الكهربائية هي نقيض الدولة ، تنفيها وتبطل وجودها .

ازمة النازحين السوريين هي البند المفضل لدى السياسيين ، فهو الشماعة التي تعلق عليها كل اخفاقاتهم . صحيح ان وجود الهاربين من جحيم الحرب السورية في لبنان زاد بشكال ملحوظ استهلاك الطاقة ، بارقام تتراوح بين 350 و400 ميغاوات ، ولكن هذا الاستهلاك الاضافي لا يغير في صلب المشكلة ، لان انتاج لبنان هو 2000 ميغاوات وحاجته تتراوح بين 2500 و3000 ميغاوات (في الصيف) ، اي ان النقص حاصل قبل النازحين السوريين ، ولعل تأمين احتياجات هؤلاء تم من المولدات الخاصة باكلاف مرتفعة دفعتها الدولة اللبنانية بصورة غير مباشرة ، وعوضا ان تذهب مئات ملايين الدولارات المقدمة من الامم المتحدة والدول المانحة ، او جزء يسير منها ، لبناء معمل انتاج كهرباء، فضل المسؤولون اللبنانيون ابقاء الوضع على ما هو عليه .. من هدر للكهرباء وسرقة لمال النازحين ...وشكوى فقر حال.

العجز وغياب السياسة الناظمة لوجود النازحين ، ينفيان وجود الدولة .

الخلاصة اننا كي نعالج أزمة الكهرباء ، ينبغي ان نحظى بدولة اولا ، وهذه لن تولد من رحم ميت ، هو الطبقة السياسية الحالية.

ازمة الكهرباء تتطلب ثورة تبني دولة.. وليس اقل من ذلك .