الفقر والجوع والمرض والصراعات، هي الجوانب الأربعة للصورة النمطية التي تقفز مباشرة في مخيلة الكثيرين بمجرد سماع اسم أي دولة من دول الصحراء الإفريقية.

ولكن ما قد يفاجأ به البعض هو أن عددا غير قليل من هذه الدول حققت قفزات ضخمة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي في فترات قياسية، وذلك على الرغم من أنها تعتبر أقل حظاً من غيرها حين يتعلق الأمر بالموارد الطبيعية.

وفي هذا التقرير سيتم التركيز على نظام الرعاية الصحية الذي تمكنت من تأسيسه واحدة من بين هذه الدول الفقيرة في غضون سنوات قليلة، وهي "رواندا".

لم تقم روندا ببناء نظام رعاية صحية جيد فقط، وإن كان ذلك منطقياً ومقبولاً نظراً لقلة مواردها، ولكنها تمكنت من تأسيس أحد أنجح الأنظمة الرعاية الصحية في العالم، والذي يضم تحت مظلته أكثر من 90% من السكان.

والمثير للإعجاب هو أن هذه النقلة المذهلة حدثت رغم أن نصيب الفرد في رواندا من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد في عام 2016 يبلغ 700 دولار فقط، وبالطبع يمكن مقارنة الرقم المتواضع مع دول يزيد فيها ذلك القدر على عشرة آلاف وعشرين ألف دولار، وأكثر.. أيهما من المفترض أن يحظى برعاية صحية أفضل؟

وقبل تناول قصة نظام الرعاية الصحية في رواندا، ربما ينبغي الرجوع عقدين إلى الوراء، للنظر في حقبة مصيرية تمثل جزءًا مهما من تاريخ أرض الألف تل، وذلك لأن الأحداث التي وقعت خلال تلك الفترة لا يمكن فصلها بحال عن حاضر هذا البلد أو مستقبله.

العودة من المجهول

- في غضون 100 يوم فقط وتحديداً خلال الفترة ما بين السابع من نيسان ومنتصف تموز من عام 1994، قُتل ما يقرب من 800 ألف شخص خلال حملة إبادة جماعية شنتها جماعة الهوتو التي تمثل الأغلبية في رواندا ضد الأقلية من قبيلة "توتسي".

- انتهت المذبحة بعد أن تمكنت الجبهة الوطنية الرواندية (RPF) المدعومة من التوتسي والمسلحة بأسلحة ثقيلة من السيطرة على البلاد، لتقوم بطرد قادة الهوتو إلى الخارج، ويتشرد ما يقرب من مليوني رواندي معظمهم من الهوتو وأصبحوا لاجئين.

- كان للإبادة الجماعية أثر عميق جداً على روندا والبلدان المجاورة، حيث انتشرت الأمراض، وخصوصاً فيروس الإيدز، وفقدت مئات الآلاف من الأسر عوائلها، وتدمرت البنية التحية للبلاد، وأصبحت شبه أنقاض.

- لاحقاً تولى بول كجامي رئاسة رواندا في عام 2000، والذي شغل منصبي نائب الرئيس ووزير الدفاع منذ عام 1994. ونما الاقتصاد في ظل رئاسته بوتيرة متسارعة، وبلغ تعادل القوة الشرائية للمواطن في عام 2013 حوالي 1592 دولاراً، مقارنة مع 567 دولارا في عام 2000.

- كانت سياسة كجامي الاقتصادية تقوم على تحرير الاقتصاد وخصخصة الصناعات المملوكة للدولة، والقضاء على العوائق البيروقراطية، وتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد قائم على المعرفة، وآمن أن رواندا قادرة على محاكاة نموذج سنغافورة.

- روندا بلد قليل الموارد الطبيعية، ويعتمد الاقتصاد بشكل كبير على الرزاعة والتي يمتهنها أكثر من90% من السكان. ولكن خلال رئاسة "كاجامي" المستمرة حتى الآن، نما قطاع الخدمات بقوة، ليصبح أكبر قطاع في البلاد من حيث الناتج الاقتصادي، ويساهم بنسبة 43.6% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2010.

- أصبحت رواندا واحدة من الدول الأقل فساداً في أفريقيا، وتضاعف دخل الفرد ثلاث مرات، ولكن أبرز إنجازات "كجامي" كانت في مجال الصحة.

الحصان الأسود

- في عام 1999، كانت أغلب المرافق الصحية في رواندا غير مستخدمة، لأن الغالبية العظمى من السكان لم تستطع تحمل تكاليفها. وإدراكاً منها لذلك، دشنت وزارة الصحة مشروعاً رائداً للتأمين الصحي شمل في البداية ثلاث مقاطعات، وبدأ البرنامج في الانتشار في جميع أنحاء البلاد بداية من عام 2004.

- خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، تمكنت رواندا من إنشاء نظام للرعاية الصحية شبه شامل، يغطي أكثر من 90% من السكان، بتمويل من الإيرادات الضريبية والمساعدات الخارجية، والاشتركات، ولا تزيد نسبة الروانديين غير المؤمن عليهم على 4%.

- وفقاً لأرقام عام 2011، يدفع المشترك ضمن النظام دولارين سنوياً، ولكن هذا الرقم يتضاعف 4 مرات ليصل إلى 8 دولارت سنوياً بالنسبة للأغنياء، وخلال كل زيارة إلى أي عيادة تابعة للتأمين يدفع المشترك 33 سنتاً، وإذا كان بحاجة إلى الذهاب إلى المستشفى لا يدفع سوى عُشر قيمة الفاتورة.

- قبل عشر سنوات، عندما كانت تكلفة الولادة في المركز الصحية حوالي 25 دولاراً، لم تتجه إليها سوى 20% من النساء، ولكن هذه النسبة ارتفعت إلى 70% في عام 2012 عندما أصبحت تكلفة الولادة في ظل نظام التأمين الصحي 33 سنتاً فقط، وهو ما نتج عنه انخفاض معدل وفيات الأمهات والأطفال.

- ارتفع متوسط الفترة التي يتوقع أن يعيشها الطفل الرواندي حديث الولادة إلى 64 عاماً، ورغم أن ذلك الرقم يبدو قليلا نسبياً مقارنة مع دول أخرى لديها معدلات أفضل، ولكنه أطول بنحو 18 عاماً مقارنة مع مستواه بداية عام 2000 .

- النظام ليس مثالياً، ولكنه يتطور بوتيرة مذهلة. حيث وجدت دراسة مقارنة للإصلاح الصحي في البلدان النامية أن حوالي 60% من حالات الولادة في رواندا تمت تحت إشراف عاملين صحيين مهرة. ومع ذلك تحسنت إمكانية الحصول على الرعاية الصحية بشكل كبير مع انخفاض حجم العبء المالي التي تفرضه الحكومة على المواطن العادي.

- في المتوسط، يذهب الروانديون حالياً إلى الطبيب مرتين كل عام، وذلك مقارنة مع مرة كل أربع سنوات في عام 1999.

- أكثر من 97% من الأطفال الرضع في رواندا تم تطعيمهم ضد الدفتيريا والكزاز والسعال الديكي والتهاب الكبد "B" والمستدمية النزلية من النوع (ب) وشلل الأطفال  والحصبة والحصبة الألمانية والمكورات الرئوية والفيروس العجلي، وذلك وفقاً لدراسة أجريت في عام 2014 من قبل فريق بقيادة الدكتور "بول فارمر" من كلية الطب بجامعة هارفارد، والدكتورة "أجنيس بيناغواهو" التي أصبحت لاحقاً وزيرة الصحة في رواندا.

- انخفض معدل وفيات الرضع بمقدار ثلاثة أرباع تقريباً منذ عام 2000 ليصل إلى 31 حالة لكل 1000 مولود، وهو ما يفوق حجم الانخفاض الذي حدث في الولايات المتحدة مثلاً والذي لم يتجاوز الخمس خلال نفس الفترة ليصل إلى 5.6 حالة لكل 1000 طفل.

السر يكمن في عقلية صانعي القرار

- ساهمت الزيادة في أعداد المشتركين والمدفوعات في تطوير المستشفيات والمرافق الصحية. فمن دون دخل، لن تتمكن المستشفيات من دفع رواتب الأطباء وشراء المعدات. ولكن الآن، أصبح بإمكان المستشفيات تغطية كافة نفقاتها، ليبدأ الأطباء والممرضات في الانتقال من المدن إلى الريف.

- في شرحها لسبب تركيز رواندا على الرعاية الصحية بهذا الشكل، تقول وزيرة الصحة الرواندية السابقة "أجنيس بيناجواهو"، في أي بلد في العالم وخاصة في البلدان الفقيرة، تشكل الأزمات الصحية سبباً رئيسياً لانحدار الأسر إلى الفقر، ولذلك حرصنا على تأسيس نظام صحي لا يكلف أغلبية مواطنينا الكثير من الأموال، وهذا في الواقع يمنحهم قدرا كبيرا من الاستقرار النفسي ويسمح لهم بالتركيز على أشياء أخرى، واستخدام هذه الأموال في أمور قد تحفز من التنمية الاقتصادية.

- التحدي الذي يواجه النظام الصحي في رواندا حالياً هو أن يتمكن من تغطية نفقاته، ففي عام 2012 لم تغط الاشتراكات سوى 45% من التكاليف، أما بقية الأموال فقد جاءت من الحكومة والجهات المانحة، وكان هذا هو سبب قيام الحكومة برفع قيمة الاشتراك.

- الآن تم تقسيم الاشتراكات إلى ثلاث شرائح، تشمل اشتركات سنوية قدرها 3.6 دولار و 5.9 دولار و8.3 دولار، بينما تتحمل الحكومة كامل تكاليف علاج السكان الأكثر فقراً.

- لكن رغم ذلك تبدو فرضية أن النظام الصحي في رواندا سيتمكن من تغطية تكاليفه بمفرده غير واقعية، وذلك لأن الروانديين الذين لا يزيد نصيب الفرد منهم من دخل بلاده الإجمالي على 700 دولار يواجهون نفس المشاكل الصحية التي يواجهها الأشخاص الذين يزيد نصيبهم من ناتجهم الإجمالي على مائة ضعف نصيب الروانديين.

- رغم كل شيء، على الأقل تمكنت رواندا من إدارة وتوظيف أموالها الضئيلة بحكمة، ونجحت في بناء نظام صحي كامل يشمل جميع مواطنيها تقريباً، والأهم من ذلك أنها نجحت في الوصول بالنظام إلى الأشخاص الذين يحتاجونه فعلاً أكثر من غيرهم.

- الآن، السؤال الذي من المفترض أن تسأله أي دولة لنفسها: إذا كان بإمكان بلد مثل رواندا شحيحة الموارد والتي بدأت من لا شيء تأسيس نظام للرعاية الصحية يشمل جميع مواطنيها، وخلق قيمة اقتصادية إلى جانب القيمة البشرية والاجتماعية، أمن المستحيل تكراره؟

- الدولة الإفريقية الفقيرة برهنت عمليا على إمكانية عمله وتبقى الإرادة والإدارة شاهدة على نجاحه..فماذا عن الأغنياء؟