لم تفلح الإجراءات التي اتخذها صانعو السياسة النقدية والمالية الأوروبيون في انتشال ​منطقة اليورو​ من أزمة الديون السيادية التي تمر بها، لتستمر الأزمة في الضغط على اقتصادات الدول الأعضاء، حتى الكبيرة منها، ولتتواصل حالة الركود الاقتصادي في المنطقة، ولتمتد منها إلى باقي اقتصادات العالم نتيجة لتراجع المبادلات التجارية بينها نتيجة لضعف الطلب.

وبالتزامن مع تضارب آراء ومخططات بعض الدول، أو تضارب مخططات الدول مع مصالح ألمانيا، وفي ضوء سعيها لحماية العملة الموحدة والمصالح الاقتصادية المرتبطة بذلك نجد دولة أخرى تنحو باتجاه آخر، فقدأعلن رئيس الوزراء الفنلندي جيركي كاتينين يوم أمس أنه وعلى الرغم من ان بلاده لا ترغب في دفع ثمن أخطاء الآخرين، فإنها مستعدة لتقديم مساعدة للدول المتعثرة ولكن بشروط، ولا يوجد سبب لمطالبة مصرف في حالة جيدة بتمويل آخر متعثر، أو مطالبة دولة بدفع ثمن أخطاء جيرانها.وشدد كاتينين على أن ​فنلندا​ تطالب منذ الموافقة على حزمة المساعدات الثانية لليونان بضمانات محددة للحد من المخاطر، مبيناً أن بلاده لطالما انتقدت أداء أوروبا تحت معايير اقتصادية لا تشمل التشكك حيال الاتحاد الأوروبي، وأشار كاتينين إلى أنه لا يعتقد أن إسبانيا ستطلب برنامج إنقاذ كامل، لأنها ترغب في استمرارها بالأسواق، مؤكداً أن باقي الشركاء الاوروبين يفترض بهم أن يدعموها في ذلك.

ويأتي هذا التصريح بعد أيام من تصريح آخر لوزير خارجية فنلندا ايركيتوميجا أعلن فيه أن على القادة الأوروبيين الاستعداد لتفكك يلوح في الأفق لمنطقة اليورو، منوّهاً إلى أن مسؤولين فنلنديين يعدون خطة لمواجهة تفكك اليورو، وستكون خطة تنفيذية لمواجهة أي طارئ،  وأشار إلى أن تفكك اليورو لايعني نهاية الاتحاد الأوروبي لأن ذلك قد يجعل وظيفة الاتحاد أكثر فاعلية.

وقبل ذلك كانت وزيرة المالية الفنلندية يوتا أوربيلاينن قد أشارت في لقاء مع صحيفة "Kauppalehti"  أن بلادها تفكر في الخروج من منطقة اليورو كخيار أفضل من دفع ديون دول أخرى في الاتحاد، وأنها لن تشنق نفسها بسبب اليورو، وأوضحت أن فنلندا لا تزال من بين الدول الأعضاء القليلة في التكتل النقدي التي تتمتع بتصنيف ائتماني عند مستوى AAA، ولن توافق على نموذج يجعلها مسؤولة مع آخرين عن كافة ديون المنطقة.

وبالعودة إلى أسباب هذه التصريحات، والتي تناقض تماماً تمسك دول أخرى بوحدة اليورو، بات من المرجح، إذا استمرت الحال على ما هي عليه في منطقة اليورو، أن ينزلق اقتصاد فنلندا إلى الركود خلال العام القادم بالتزامن مع استمرار تباطؤ النمو العالمي، وهو الأمر الذي يلقي بظلال سلبية على توقعات حزيران التي انتظرت نمواً بنسبة 1.2%، كما يتوقع أن الناتج المحلي الإجمالي سينمو بنسبة تتراوح بين 0% و 1% خلال عام 2013، لكنه قد يتقلص، وذلك بالنظر لما يحدث للاقتصاد العالمي، في وقت تسعى فيه الحكومة لتعزيز النمو الاقتصادي مع الحفاظ على وضع مالي قوي، وذلك أملاً في الإبقاء على مكانتها وتصنيفها الحالي المميز من الوكالات الثلاث الكبرى، علماً أن البلاد كانت قد خرجت من الركود في الربع الثاني من عام 2010، ودون أن ننسى أن نسبة الدين العام الحكومي إلى الناتج المحلي في فنلندا هي أقل من معظم دول الاتحاد الأوروبي.

وبإجراء نظرة عامة على اقتصاد فنلندا، نجد أنها تمتلك اقتصاداً صناعياً مختلطاً يضاهي الاقتصادات الأوروبية الأخرى مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا عند المقارنة بين نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، ويعد قطاع الخدمات أكبر قطاعات الاقتصاد بنسبة 65.7%، مما يعني أن اقتصاد البلاد يتأثر بشكل واضح بأعمال المصارف وشركات التأمين (محور الأزمات)، يليها قطاع الصناعات التحويلية والتكرير بنسبة 31.4% وهو ما يعني أيضاً تأثر الاقتصاد بأسعار النفط، وإضافة إلى ذلك تأثر تجارتها الخارجية والتي يشكل قطاع الالكترونيات الجزء الأكبر منها بضعف الطلب العالمي وخاصة الأوروبية منها، لا سيما وأن التجارة الدولية تشكّل ثلث الناتج المحلي الإجمالي، تستحوذ التجارة مع الاتحاد الأوروبي على 60% منها. وإذا ما بحثنا عن أكبر الشركاء التجاريين لفنلندا نجد أنهم ألمانيا وروسيا والسويد وبريطانيا والولايات المتحدة وهولندا والصين، مما يعني أن علاقاتها الاقتصادية تتركز مع دول خارج نطاق الأزمة، ولذلك فهي تبدو غير مستعدة للمخاطرة بوضعها الاقتصادي من أجل دول ترزح تحت الأزمة، كما قد تفعل ألمانيا وغيرها.

إذن، فإن الدولة الوحيدة من الشمال الأوروبي، والتي انضمت التي إلى منطقة اليورو عام 2006، تمتلك رؤية مختلفة لمستقبل اليورو، فالحكومة تعتقد أنه يمكن تجنب تقديم مساعدات طوارئ إضافية لدول متأزمة داخل المنطقة، إذ أن الاتحاد الأوروبي لديه آليات للمساعدة، مثل البرنامج الجديد الذي أعلن عنه البنك المركزي الأوروبي لشراء سندات حكومية، أي أن فنلندا ترغب في حلول لمشاكل كل دول منطقة اليورو، وليس إنقاذ بعضها على حساب بعضها الآخر، وإلا فإن خيار الخروج من منطقة اليورو ستكون سلبياته أقل بكثير من سلبيات الاستمرار في منطقة تترنح على شفير الانهيار.