لماذا يشارك ​المستثمرون​ في "التدافع من أجل النقد"، أو الهروب إلى أي ملاذات آمنة يمكنهم الوصول إليها؟ ليس من الصعب التفكير في الأسباب: تزايد الشكوك حول مستقبل منطقة اليورو، وسوء البيانات الاقتصادية الأساسية لبلدان العالم المتقدم، فضلاً عن وجود مخاوف في الولايات المتحدة من احتمال حدوث "تدهور مالي" أو كارثة ديون جديدة.

إضافة إلى هذه المخاوف الواضحة هناك عامل آخر يتمثل في معاناة المستثمرين وصناع القرار من صدمة إدراكية. فعلى مدار العقود القليلة الماضية، عمل معظم المستثمرين كما لو كان العالم مكانا يمكن فيه ربط المتغيرات الرئيسية بجدول بيانات إلكتروني، أو أنموذج حاسوبي. ومنذ انطلاق ثورة الحوسبة في وول ستريت والحي المالي في لندن في السبعينيات، تم التعامل مع عالم المال على أنه علم وليس فنًّا. وعملت البنوك كما لو كانت النماذج الحاسوبية قادرة على التنبؤ بالمستقبل وليس فقط توضيح الماضي.

ويجد أولئك "الضالعون في علم الرياضيات" وعلماء الصواريخ أنفسهم الآن في مأزق حيث لا تستطيع النماذج الحاسوبية وحدها حساب الاحتمالات حول ما يمكن أن يحدث في منطقة اليورو. لكن الأمر المهم حقاً في الوقت الحالي في مناطق مثل فنلندا واليونان، يتمثل في قضايا غير كمية كالقيم السياسية والترابط الاجتماعي والهوية المدنية. وقبل كل شيء تعد مسألة "الائتمان" المفتاح لمعرفة إمكانية تسديد السندات. لكن لا يعد هذا ائتمانا بالمعني الرياضي الذي عرفته البنوك على أنه (احتمال موضح على رسم بياني)، لكنه بالمعني القديم اللاتيني الاجتماعي (الثقة). وبعبارة أخرى، المتغير الحاسم هو ما إذا كان لدى الناخبين ثقة بحكوماتهم وبنوكهم المركزية من عدمه. هل يثقون في سلامة بنوكهم؟ هل المواطنون على استعداد لإبداء الثقة ببعضهم بعضا والتعاون عندما تُفرض عليهم الآلام؟

ومما لا شك فيه أن هذه القضايا غير الكمية ستكون مألوفة لأي مصرفي مارس هذه المهنة في منتصف القرن الماضي. فمنذ سبعة عقود مضت، تعلم المتدربون عند انضمامهم إلى بعض المؤسسات، مثل جيه بي مورجان وسيتي بانك، أنهم لا يمكنهم تقييم مخاطر الائتمان من العوامل الكمية وحدها، مثل التدفق النقدي، كما كانت مسألة "الشخصية" مهمة أيضاً، سواء كانت تتعلق بشركات، أو أفراد، أو دول. وعندما حلل المستثمرون المخاطر في الأسواق الناشئة، مثل الأرجنتين وتركيا وإندونيسيا، أبدوا اهتماماً كبيراً بالمخاطر السياسية والقيم المدنية والثقافة الاجتماعية.

لكن غالباً ما كان يتم تجاهل هذه القضايا البسيطة في الدول التي من المفترض أنها متقدمة، مثل الولايات المتحدة ودول أوروبا، بل كان ينحصر تركيز المستثمرين تقريباً على الأرقام، مثل معدلات التضخم والديون، وكان ينظر للمخاطر السياسية الحادة على أنها مشاكل خاصة بالأسواق الناشئة تنطبق على جمهوريات الموز وليس العالم الغربي.

ونتيجة لذلك ترك الاضطراب الذي يحدث في منطقة اليورو العديد من المستثمرين في حالة ذهول وحيرة، ناهيك عن الحقيقة القائلة إن الأرقام المالية للعديد من دول الأسواق الناشئة تفوق نظيرتها في الدول الغربية، أو أن بعض دول الأسواق الناشئة تعتبر الآن أقل خطورة من الدول المتقدمة (ولنستشهد بمثال واحد فقط، فالمكسيك تتمتع بصدقية في سوق المشتقات الائتمانية أكثر من إسبانيا). لكن الصدمة الكبيرة حقاً هي أن القضايا الاجتماعية البسيطة أصبحت بشكل مفاجئ حاسمة بالنسبة لبلدان العالم المتقدم، حيث أصبحت قضايا الترابط الاجتماعي والثقة مهمة بصورة كبيرة مع إطاحة الناخبين في أوروبا بنحو عشرة من الحكومات القائمة. وهذا النوع من الخطر لا يمكن إدراجه في جدول بيانات إلكتروني.

لكن الأنباء السارة هي أن هناك العديد من المؤسسات تسعى جاهدة لتبني هذا التحول العقلي. وقد توسعت معظم البنوك الاستثمارية الكبرى في وول ستريت ولندن هذا العام في خبراتها السياسية والاجتماعية. كما أجرت وكالات التصنيف، مثل ستاندار آند بورز، بعض التغيرات على عمليات التصنيف الداخلية للتأكيد على العوامل البسيطة، كالثقافة السياسية. ويخبر مديرو الأصول الكبرى عملاءهم أن من الحماقة الاعتماد على النماذج وحدها، وبعض المؤسسات الحكومية تتكيف مع هذه العوامل أيضاً. وقد بدأ كبار المسؤولين في البنك المركزي الأوروبي تخزين حزم تلخيصية حول الاتجاهات السياسية والاجتماعية في منطقة اليورو إلى جانب الأرقام النقدية المعتادة. وقال أحد هؤلاء المسؤولين للمستثمرين الأمريكيين الشهر الماضي: "إنه تغيير تام. فقد قضيت معظم حياتي المهنية في دراسة الاقتصاد، لكنني أقوم الآن بدراسة الأحزاب السياسية أيضا". لكن الأنباء غير السارة هي أن المشهد العقلي الجديد يثير الرعب بين كثير من المستثمرين - أو واضعي السياسات، خاصة أولئك الذين قضوا حياتهم المهنية معتمدين على النماذج الحاسوبية. إلا أن ما يجعل هذا المشهد مخيفاً على نحو مضاعف هو التعقيد التام لجميع أجزائه المتحركة، أو كما أوضح أحد أكبر مديري الأصول في أمريكا "إننا نرغب في التعامل مع الاحتمالات، لكن هناك كمية كبيرة من النتائج المحتملة بشأن منطقة اليورو بحيث يصعب تقديرها".

ولا عجب إذاً أن عددا كبيرا من المستثمرين انتظروا على الهامش رافضين استثمار أموالهم، أو الإسراع نحو ملاذات آمنه. وليست المشكلة بكل بساطة أن التوقعات بالنسبة لمنطقة اليورو تبدو متشائمة، ولكن المشكلة أن هذه الظلال السوداء تتحدى أي نظام يضع نماذج للخطر، وهناك فرصة ضعيفة لتغيير ذلك قريباً. فقد دخلنا في "عصر جديد من التقلبات" ليس فقط في مجال المال والاقتصاد، لكن أيضاً في السياسة والمجتمع.