منذ ستينات القرن الماضي والإستراتيجية الأميركية في الاقتصاد تعتمد على المعرفة. وُتظهر التحاليل أن هذه الإستراتيجية ترتكز على عدد من العناصر غير المُتجانسة في نطاق شبكة مع توجه كبير إلى الإنتاج الكثيف وبث المعرفة. وتترجمت هذه الإستراتيجية بتصدير المعرفة الأميركية على شكل منتجات جعلت من الولايات المُتحدة الأميركية الدولة الأولى في العالم بدون منازع.

في العام 1951 قام المؤرخ الأميركي روبرت شليزنجر بطرح مُشكلة المخاوف من الإنتاج الفكري وخصوصاً الأتي من الشرق. هذا الطرح أتى في ظل مهام شليزنجر كمستشار خاص في الإدارة الأميركية وكان من الطبيعي أن تكون أنظاره مُتجهة نحو الإتحاد السوفياتي والفكر الشيوعي الذي كان يُعتبر في الولايات المُتحدة الأميركية العدو الأول. ونصح شليزنجر الإدارة الأميركية بإعتماد أسلوب مُتميز في الإنتاج الفكري في مواجهة تطور كثيف للسكان والثقافات.

وفي العام 1960، صرّح الرئيس الأميركي جون كندي وذلك على خلفية التطور الفكري في الولايات المُتحدة الأميركية في الخمسينات، عن رغبته في تحفيز وتوسيع الموارد الثقافية للولايات المتحدة في خطابه الشهير عن "الحدود الجديدة" (Martel 2006). في ذلك الوقت، لم تكن الأفكار واضحة تماماً عن معنى هذه الحدود الجديدة خصوصاً أن العالم خرج لتوه من حرب عالمية ثانية وكل تفكير المجتمعات والأفراد في ذلك الوقت كانت مُسلّطة على التسلح والقوة العسكرية. ورسخت هذه الفكرة أكثر فأكثر مع نجاح إطلاق أول قمر صناعي "فوستوك" على يد رائد الفضاء يوري غارغارين.

وإذا كان الأميركيون قد قبلوا التحدّي العسكري وبدأت الحرب الباردة وغزو الفضاء، إلا أنهم عملوا في نفس الوقت على سلاح من نوع أخر: السلاح الثقافي والفكري. حيث بدأ الأميركيون بإنتاج المعرفة – سلاح فتاك – وأخذوا في نشره في العالم أجمع. وما الصناعة الهوليوودية إلا ترسيخ لهذه الإستراتيجية التي وضع أُسسها كندي. وبالفعل وفي عهده أخذت الإستثمارات في المجال الثقافي بالإزدياد بنسبة كبيرة، لكنها لم تُعطي ثمارها الحقيقية إلا في الثمانينات حيث ظهرت إلى العلن عدد من الإجراءات الدقيقة في مجال إقتصاد المعرفة.

ففي العام 1980، صوّت الكونغرس الأميركي على قانون جديد (Bayh-Dole Act) يسمح من خلاله للمؤسسات التي لا تبغى الربح من الإستفادة من تمويل حكومي بهدف البحث العلمي شرط أن تكون الإستفادة التجارية (Brevet) لصالح الحكومة الفديرالية. وبالفعل كان لهذا القانون تأثير إيجابي هائل على الاقتصاد من خلال التطبيقات التي تمّ إكتشافها خصوصاً في مجال البيوتكنولوجيا. لكن الإدارة الأميركية التي كانت تهتم بالإبداع في مجال التكنولوجيا وصناعة إنتاج المعرفة لم تتوقف عند هذا الحد بل قامت بإقرار قانون جديد (من خلال الكونغرس) سُمّي بـ "Stevenson-Wydler Technology Innovation Act" والذي قونن وموّل مراكز الأبحاث التابعة للجامعات والمؤسسات التي لا تبتغى الربح.

وفي نفس الوقت، قامت الإدارة الأميركية بوضع برامج موجهة حصرياً للشركات الصغيرة والمُتوسطة الحجم. هذه البرامج كانت تهدف قبل كل شيء إلى دعم الإمتياز العلمي والإبداع التكنولوجي من خلال دعم مالي كبير مُبرّر بخلق ركائز أساسية، مُتنوعة، وقوية للإقتصاد الأميركي. وبذلك نرى أن كيف أن الإستراتيجية الأميركية إعتمدت بذلك على المعرفة الموجودة في الجامعات ومراكز الأبحاث، على الوسيلة لنقلها إلى القطاع الخاص من خلال الشركات الصغيرة والمُتوسطة الحجم، وعلى المال العام بحجة أن الضرائب كفيلة بسدّ هذا المال العام. هذه الديناميكية التي خلقتها هذه الإستراتيجية جعلت من الاقتصاد الأميركي أقوى إقتصاد في العالم حيث يبلغ حجمه اليوم أكثر من ربع الاقتصاد العالمي.

ولتخفيف تدخلّ الحكومة مالياً في دعم الاقتصاد وبهدف الإستدامة، قامت الإدارة الأميركية بتقوية العلاقة بين الجامعات والقطاع الخاص. وبالتالي أقرّت من خلال الكونغرس الأميركي قانوناً جديداً (the economic tax recovery act) الذي هو عبارة عن سياسة ضريبية بإتجاه القطاع الخاص حيث أن الشركات التي تدعم أبحاث جامعية ترى الأموال التي تضخها معفية من الضرائب مع حقها التجاري في الإختراعات التي تنتج عن هذه الأبحاث. وبالتالي ظهرت الجامعات الأميركية كخزان كبير للأبحاث خرجت منه شركات كبيرة كمحرك البحث "غوغل" وغيرها من الشركات التي هي وليدة الأبحاث في الجامعات.

والجدير بالذكر في هذه الديناميكية التي خلقتها الإدارة الأميركية بين القطاع الخاص والجامعات، هو ظهور تكتلات مناطقية مثل السيليكون فالي والتي تُظهر مدى قوة التواصل والتفاعل بين اللاعبين الإقتصاديين والعالم الأكاديمي. هذه التكتلات التي تُشرك القطاع الخاص، الجامعات والحكومة في نفس الوقت، تمّ وصفها بالحلزون الثلاثي الذي يستفيد من التشارك بالموارد والمعرفة في ظل إستراتيجيات تعاون مُربحة للجميع (win-win strategy). وما الإنترنت الذي نتباهى به اليوم والذي أصبح حاجة يومية كالشرب والنوم إلا مثالاً على نتيجة تعاون الحلزون الثلاثي الأميركي الذي إستفاد مادياً وأفاد العالم من خلال إستخداماته في الحياة اليومية.

لكن المُلفت أن هذا التعاون أدى إلى دمج التكنولوجيا في باقي القطاعات الإنتاجية على مثال السيارات التي أصبحت اليوم مركز كمبيوتر مجهز بإتصالات يتنقّل على الطرقات ويحمي الإنسان من الأحداث المُفاجئة. والأمر لا يقتصر على السيارات بل يشمل قطاعات عدة كالأفران (Microwaves) الذكية التي ومن خلال شاشتها يُمكن التواصل مع أي متجر، أو المنزل الذكّي الذي يتفاعل بحسب طلباتنا. نعم هذا هو نتاج التعاون الذي خلقته الإستراتيجية الأميركية.

هذا النموذج الذي إقتبسته العديد من الدول الغربية، أعطى فعله في إقتصاداتها ولكن ليس بزخم الاقتصاد الأميركي. كما أن بعض الدول الأسيوية على مثال كوريا الجنوبية، قامت بتطبيق هذه الإستراتيجية والنتيجة واضحة: إقتصاد كوريا الجنوبية إقتصاد هائل مع سيطرة عالمية لشركات كورية كسامسونغ وكيا وغيرها.

أمّا في لبنان فيبقى إقتصادنا مبني على الإنتاج التقليدي الزراعة، الصناعة والخدمات مع مبادرات فردية لبعض الأشخاص والشركات في ما يخص إقتصاد المعرفة. وإذا كان حاكم مصرف لبنان قد خصص أموال لدعم إقتصاد المعرفة، إلا أنه وبدون الشق التشريعي الذي يؤمن مناخ عمل مؤات مع تخصيص الشركات الصغيرة والمُتوسطة الحجم بإطار قانوني ودعم الأبحاث في الجامعات، سيظل الاقتصاد اللبناني على وتيرة عجز الموازنة وإصدار السندات وسيطرة القطاع المصرفي والخدمات عامة على النمو الاقتصادي.