بعد تجميد لسنين عديدة، قامت وزارة الإقتصاد والتجارة بتفعيل آلية إنضمام لبنان إلى منظمة التجارة العالمية.  هذا الأمر لقي إيجابية من قبل العديد من مراكز القرار حيث يرى البعض فيها أملاً جديداً للبنان نحو العولمة التي من المفروض، وبحسب المؤيدين، أن تؤمن للبنان إستثمارات أجنبية جديدة كما وزيادة التجارة بين لبنان والعالم. وعلى هذا الصعيد فنّد وزير الإقتصاد والتجارة آلان حكيم فوائد إنضمام لبنان إلى منظمة التجارة الدولية عبر قوله أن الإنضمام سيؤكد خريطة لبنان دولياً كما وسيادته ومكانته في العالم. يُضيف حكيم أن مصلحة لبنان العامة في ظل الاوضاع الاقتصاية الراهنة تعتمد على حل مشكلتين: الحد من البطالة وتعادل الميزان التجاري.

 وبحسب حكيم، سيتمّ حلّ هاتين المُشكلتين بإلإنضمام الى منظمة التجارة الدولية. ويتوافق عدد من رؤساء الهيئات الإقتصادية مع حكيم حيث يقول محمد شقير رئيس اتحاد الغرف اللبنانية، أنه لا يُمكن للبنان البقاء خارج المُنظمة في ظل بقاء عدد قليل من الدول خارجها ولبنان من بينهم.

لكن هذا التفائل الكبير وهذه الإيجابيات التي يسعى المسؤولون إلى نشرها في المجتمع، يُلاقيها حقيقة مرّة تطال مصير قطاعي الصناعة والزراعة وحتى قسم من قطاع الخدمات. وهذا ما عبّر عنه وزير الصناعة حسين الحاج حسن الذي قال أن دخول لبنان إلى منظمة التجارة العالمية سيقضي على القطاعات الإقتصادية اللبنانية وسيزيد من عجز الميزان التجاري. ويُضيف الحاج حسن أن توقيع اتفاقيتي التجارة مع الإتحاد الأوروبي والدول العربية في العقد الماضي، أدّى إلى زيادة عجز الميزان التجاري اللبناني مع هذه المناطق بشكل دراماتيكي.

وإذا كان العديد من الإقتصاديين يوافقون الحاج حسن رأيه، إلا أن هناك تلكوء من قبل هؤلاء في التعبير عن أراءهم الإقتصادية خصوصاً الأضرار المُحتملة على القطاعات الإنتاجية. هذه الأضرار إعترف الوزير حكيم بوجودها بقوله أن الإنضمام له إيجابيات وسلبيات، وكذلك فعل شقير بقوله أن هناك بعض المعوقات الإقتصادية التي يجب ان نعمل على حلها. لكن ما هي هذه الأضرار؟ وهل سلبيات الإنضمام تفوق إيجابياته؟

يبلغ حجم الإستيراد اللبناني من البضائع 20.49 مليار دولار أميركي (2014) مقارنة بـ 3.31 مليار دولار تصدير لبضائع صناعية وزراعية. ومن الملاحظ أن حجم الصادرات هبط من أعلى مستوى تاريخي 4.27 مليار دولار بلغه في العام 2011 بحسب أرقام المركز الدولي للتجارة. وهذا التراجع الذي تتحمّل مسؤوليته بالدرجة الأولى الأزمة السورية وتداعياتها على الشارع اللبناني، قلّلت بشكل كبير من الإستثمارات في القطاعين الصناعي والتجاري بنسبة تفوق الـ 20% بحسب منظمة الـ UNICTAD. وبالتالي تراجعت إنتاجية هذين القطاعين وزادت كلفة النقل فيهما بحكم إقفال المعابر البرّية التي كانت تُنقل من خلالها البضائع اللبنانية إلى الخليج العربي وخصوصاً المملكة العربية التي وصل التصدير إليها إلى ذروته في العام 2011 مع 532 مليون دولار أميركي بضائع مُصدّرة إلى المملكة عبر سوريا. بالطبع لم يُسهّل التوتر في العلاقات بين لبنان والمملكة العربية السعودية هذا الأمر وبالتالي من المُتوقع أن تكون التداعيات تدريجية مع إحتمال إنخفاض قيمة التصدير من لبنان إلى دول الخليج والبالغة مليار دولار أميركي (2014)، إلى ما دون الـ 600 مليون دولار أميركي خلال 2016 و2017.

إن قسم كبير من الإستهلاك المحلّي للبضائع اللبنانية هو مُستورد من الخارج (ما يفوق الـ 75%). أما القسم الأخر فهو من الإنتاج المحلّي، ومع فتح الأسواق اللبنانية أمام المُنافسة العالمية سيتمّ القضاء على حاجز الحماية والمُتمثل بالرسوم الجمركية التي ستجعل من القطاع الزراعي عرضة لهجوم كاسح من البلدان الإقليمية المُجاورة كما أن البضائع الصينية ستقضي على مفاصل الصناعة اللبنانية عبر منافسة شرسة هي في الأصل غير متكافئة. أما فيما يخص الوكالات الحصرية والتي تُمثّلها أغلبية القوى الإقتصادية اللبنانية، فمن المُتوقع أن تختفي وبالتالي سيكون هناك رفض قوي ومُمنهج من قبل هذه القوى لأي إقرار من قبل مجلس الوزراء للإنضمام إلى المُنظمة. وبالتالي، يُمكن وضع فرضية أن زيادة العجز في الميزان التجاري في حال إنضم لبنان إلى منظمة التجارة العالمية، ستكون هي الأكثر إحتمالاً مع توقعات تفوق الـ 3 إلى 5 مليار دولار أميركي في الأعوام القادمة.

أما على صعيد الخدمات، فتُظهر بيانات المركز الدولي للتجارة أن  قطاع الخدمات في لبنان هو قطاع قوي نسبة للسوق الخارجي حيث يُؤمن لبنان ما يُقارب الـ 13.5 مليار دولار أميركي مُقارنة بتلقي خدمات بقيمة 12.7 مليار دولار أميركي. وهذا يعني أنه وفي ظل فرضية إنضمام لبنان إلى منظمة التجارة الدولية، من المُتوقع أن يُسجّل هذا الميزان عجزاً طفيفاً قد يكون من السهل محوه بإستثمارات في قطاع الخدمات.

وبالتالي ونظراً لما تقدّم، نرى أن الزراعة وبعض الصناعات ستتضرّر بدرجة كبيرة نتيجة هذا الإنضمام وقد تكون تداعيات هذا الأخير عنيفة على بعضها. من هذا المُنطلق، نرى أنه من شبه المُستحيل أن يذهب لبنان إلى حد الإنضمام إلى منظمة التجارة الدولية بهيكلية إقتصاده الحالية تحت طائلة تغيير هذه الهيكلية وتحويلها إلى خدماتية بنسبة تفوق الـ 90%.

على هذا الصعيد، يقول حكيم أن إنضمام لبنان إلى المُنظمة سيكون ضمن اطار مصالح لبنان وما يناسبه، وضمن اطار رفض ما لا يناسبنه.  ويبقى السوال عن قدرة لبنان على فرض ما يناسبه لأن الإهتمام الدولي بإنضمام لبنان يأتي بالدرجة الأولى لحماية مصالح الدول الغربية. فالبضاعة المُهرّبة والمُقلّدة تُخسّر الشركات الأجنبية وخصوصاً الأوروبية والأميركية منها ما يفوق الخمسة مليارات دولارات أميركية سنوياً نتيجة غياب التشريعات القوية التي تفرض إلتزاماً قوياً في التطبيق. وإذا ما أخذنا بعين الإعتبار تصريحات حكيم ان المنظمة ستساعد على إعادة القطاعات الى خريطة الإقتصاد اللبناني، نرى أن المُجتمع الدولي لم يفي بوعوده تجاه لبنان في ما يخص أزمة النازحين، فهل سيكون هناك من مصداقية في مساعدته في تقوية قطاعيه الصناعي والتجاري.

ويبقى القول في النهاية أنه وعلى الرغم من الإيجابيات التي تُرافق هذا الملف، فإن موقف بعض القوى السياسية تجاهه ستفرض معادلات أخرى وعلى رأسها المُماطلة.