يبدو أن الأزمة المالية التي أطاحت بالكثير من البنوك الأوروبية، أنعشت الطلب على بنوك الطعام المجانية التي تقدمها الحكومات الأوروبية للفقراء من الشعب، ومحدودي الدخل. وسياسات التقشف التي اتبعتها الحكومات في كل من اسبانيا واليونان والبرتغال وفرنسا، انعكست على شعوبها التي لن تكون بمنأى عن احتمال مواجهة مخاطر الفقر والتشرد، وبالتالي تسجيل معدلات فقر جديدة في بلدان هذه القارة، التي كانت حتى الأمس تقدم المساعدات للحد من الفقر ونسب ​المجاعة​، لدول جارتها في الضفة المقابلة لها على الساحل الجنوبي للبحر المتوسط.

إذ كشفت تقارير ميدانية أن ملايين الأشخاص في دول الإتحاد الأوروبي باتوا يعتمدون بشكل أكبر على "بنوك الطعام"  وبنسبة زيادة وصلت الى نحو 57%، وذلك بسبب الازمة في منطقة اليورو،  بعد أن خسر الكثيرون منهم وظائفهم، او انخفضت مداخيلهم بسبب الاقتطاع من رواتبهم، وبالتالي انخفاض القدرة الشرائية  لديهم.

ففي فرنسا وحدها هناك نحو 4 ملايين شخص يلجأون الى هذه البنوك، أما في اسبانيا وبحسب الأمين العام لجمعية الصليب الأحمر "ليو بولدو بيريز" ان هذه الجمعية وبنوك الطعام يقدمون مساعدات لأكثر من مليوني شخص أوضاعهم سيئة".  وقد تم توزيع  نحو 104 ألاف طن من الطعام في اوروبا ، بزيادة بلغت نسبتها 57% عن العام 2006.

ويقول خبراء أن الطلب على بنوك الطعام يأخذ منحاً تصاعدياً منذ العقد الماضي، وإن كان قد تعاظم في السنوات الأربع الأخيرة بشكل واضح، أي بعيدة اندلاع الأزمة وبشكل مباشر، التي أسفرت عن ارتفاع تصاعدي ايضاً لنسب البطالة والتي وصلت الى نحو 24% في اليونان ونحو 21% في اسبانيا، و8% في فرنسا، لكنهم يشيرون الى عنصر أهم وهو ارتفاع أسعار الغذاء العالمية وبشكل متضاعف خلال سنوات العقد الماضي، والذي يعتبر أحد الإفرازات الاساسية لسياسات العولمة والنيوليبراليا المتوحشة، التي أخذت في عين الاعتبار تطوير الرساميل وحرية حركتها، وتحقيق المنافسة في الإنتاج، دون الأخذ بعين الاعتبار النتائج التي يمكن أن تنعكس على الفرد والذي هو بالأساس جوهر الإنتاج والهدف في الاستهلاك والانفاق.

لكن أين أخفقت الحكومات الأوروبية في سياساتها الاقتصادية والتي أدّت الى هذه النتائج؟

معايير "منظمة التجارة" والتهجين الغذائي

يقول خبراء أن اتفاقية منظمة التجارة العالمية  (WTO)هي أساس وجوهر هذه النتائج،  فقد فرضت على الحكومات الأعضاء الكثير من المعاييروالالتزامات، ومن بينها ما فرضته على الدول المتقدمة وهو إلغاء الدعم المقدم للمزارعين، ولكي تتمكن من الفوز بالأسواق وتحقيق التنافس لجأت الى استخدام الهندسة الوراثية وأساليب التهجين الغذائي في المنتجات الزراعية، وهو ما عكس جشع آليات السوق على حساب الفرد، وخصوصاً المزارع او المستهلك، سيما من ناحية نسب الإنتاج المرتفعة التي تتحقق عبر هذا الأسلوب الهندسي وجودته من حيث الشكل والكميات، وعدم الالتفات الى الآثار التي قد تنعكس على المزارعين الذين كانوا يعتمدون على دعم حكوماتهم سواء عبر دعم القروض او توفير الحبوب والإرشاد الزراعي، واستصلاح الإراضي الزراعية،  وغيرها من أساليب الدعم المباشرة وغير المباشرة.   ففرنسا مثلا  راحت تأخذ بأساليب الجينات المعدلة لإنتاج الغذاء النباتي والحيواني، وحجة فرنسا في ذلك تعود لكون بعض دول الثمانية تقوم بذلك وعلى رأسهم الولايات المتحدة، التي كانت السبّاقة في اعتماد هذا النهج دون أن تعبأ بالأضرار التي تلحق بالأفراد، وهذا ما شجّع فرنسا.

ويوضخ خبراء ، الملفت أن الدول الصناعية رغم علمها أن أسلوب الهندسة الوراثية والتهجين لزيادة الإنتاج الزراعي ينطوي على خطورة بالنسبة لمواطنيها،  إلا أنها لا تكف عن مواصلة هذا النهج. وهو ما دفع مثلاً مزارعي الولايات المتحدة الى رفع دعاوى أمام المحاكم ضد مروجي استخدام الجينات المعدلة وراثيًا في الإنتاج الزراعي، وفي أوروبا تأثر المجتمع الأوروبي قبل غيره بهذه الطريقة لزيادة إنتاج الغذاء؛ حيث أدى أسلوب إنتاج الأرُز باستخدام الجينات إلى إفقار المزارعين الأوروبيين المنتجين له، وجعلهم ينضمون إلى كتائب الفقراء الذين يأكلون في المطاعم الأوروبية المجانية.

ارتفاع اسعار الغذاء

أول بشائر تلك السياسات التي اتبعت لتحقيق معايير منظمة التجارة العالمية (WTO)  ولتحقيق المنافسة،  ارتفعت الأسعارالعالمية في السلع الأساسية للفرد، كما تقلصت شريحة الطبقة الوسطى في مختلق الدول الأوروبية والتي يعتمد عليها في الإنفاق وفي الاستهلاك، لتزيد لصالح شريحتين في الطرفين المتقابلين: الفاحشة الثراء، وذات الفقر المدقع!

فيما الفارق الأسي بين هاتين الشريحتين في الطرفين المتناقضين، الأولى نسبتها متدنية قياساً للتعداد السكاني في دول الاتحاد الأوروبي ولكنها تستأثر برؤوس الأموال، وتفرض بالتالي آليات السوق  وتتحكم بالأسعار وبالسياسات، فيما الثانية نسبتها ارتفعت لتتراوح ما بين 30 و60% من إجمالي التعداد السكاني، تبعاً لكل بلد على حدا، بحسب ما يكشفه خبراء وهذا ما زاد من عدد الفقراء وذوي الدخل المحدود، رغم أن لا إحصاءات نهائية في هذا الإطار من الجهات الرسمية العالمية المعتمدة ،  في ما بعد فترة الأزمة.

وفي هذا الإطار لا بد من  أن نشير الى  إحصاءات غربية ذكرتها دراسات متخصصة، تكشف أن الدول الصناعية تملك نحو97% من الامتيازات العالمية كافة، وأن الشركات الدولية عابرة القارات تملك 90% من امتيازات التقنية والإنتاج والتسويق، وأن أكثر من 80% من أرباح إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في البلدان النامية يذهب إلى 20 دولة غنية.

ويعكس أرتفاع اسعار السلع الغذائية والمتجات الزراعية نتائج تلك السياسات الاقتصادية الوحشية، فبحسب آخر تقرير لمنظمة الأمم المتحدة فإن عام 2008 مثلاُ شهد زيادة في اسعار الألبان وصل الى 80% عن العام 2007، والحبوب 42%، واللحوم  60%، كما كشف برنامج الغذاء العالمي أن أسعار الغذاء الذي يقوم بشرائها ارتفعت قيمتها بنسبة 55% عام 2008، فكيف هو الحال هذا العام، وبعد مرور حوالي 4 سنوات على الأزمة التي تفاقمت بشكل مروّع؟

وتشير دراسات الى ان السبب الرئيسي في هذه الزيادات هو تحويل كميات ضخمة من ثلث انتاج الولايات المتحدة من الحبوب لإنتاج مادة الإيثانول والمستخدم كوقود حيوي، من أجل التخفيف من الانبعاثات الحرارية،  بينما حددت المجموعة الأوروبية هدف الوصول الي نسبة 10% من الوقود المستخدم من مصادر حيوية لتقليل الإنبعاثات الحرارية. كما ساهم تراجع عدد المزارع الحيوانية بسبب هجرة المزارعين لهذا القطاع لعدم جدواه ولتأثره بالهندسة الجينية التي نافست منتجاتهم، الى نقص الأسمدة، وبالتالي ارتفاع أسعارها  أسهم في رفع اسعار الغذاء.

هذا وتتوقع الأمم المتحدة وأجهزة أخرى زيادة أخرى لأسعار الحبوب بنسبة 27% خلال العقد القادم، كما تتوقع استمرار الزيادة في اسعار الغذاء حول العالم بنسبة تترواح بين 10 و 15% سنوياً.

وحتى الآن وبحسب منظمة الأغذية والزراعة ووكالات الأمم المتحدة المتخصصة فإن عدد الجياع في العالم تجاوز المليار و200 مليون نسمة، و هو ما اعتبرته أسواً رقم في السنوات الأربعين الماضية، رغم أن الغالبية العظمى من مناطق المحيط الهادي وآسيا وأفريقيا، الا انه يبدو أن هناك أرقام أخرى وفي مناطق أخرى  قد تتحقق ، ويعود ذلك لنقص الغذاء، ولارتفاع  أسعاره، وبالمقابل انخفاض القدرة الشرائية.

يبقى على الحكومات الأوروبية ، أن تدرك ما جنته يداها، وما حتمته تلك السياسات، فإذا كان الإنسان هو جوهر الإنتاج وهو الهدف في الإستهلاك، فهل نتوقع أن يعيد الأوروبيون النظر في شروط منظمة التجارة العالمية الحرة، وبما يخدم مصالحهم الاقتصادية التي لا يمكن أن تغفل ع موقع الفرد فيها وأهميته ، أم أنها ستستمر في ذلك النهج رغم الأزمات الاقتصادية والمالية المتلاحقة التي تعاني من وطأتها والتي بدأت تدق ناقوس خطر الفقر والمجاعة؟