يبدو القطاع الانتاجي متمسّكاً أكثر حتى الآن بالصناعات التقليدية القائمة والتي تديرها المؤسسات العائلية اللبنانية المعروفة. ولم يشتهر لبنان لغاية الآن بصناعاته الجديدة على الرغم من التغنّي بالثروة البشرية وبقدرات اللبنانيين الابداعية والعلمية من جهة، وعلى الرغم من الحوافز المالية العديدة والمشجّعة المعطاة لأصحاب هذه الصناعات من جهة أخرى.

وأكبر برهان أن صناعة التكنولوجيا والمعلوماتية في لبنان لم تتمكّن في العام 2015 من تحقيق الازدهار الاقتصادي والرفاه الاجتماعي المطلوبين، أسوة بما أنجزته صناعة الحرير قبل 150 عاماً على صعيد احداث ثورة ونهضة اقتصادية واجتماعية وصناعية ومالية وتجارية وتربوية على صعيد كلّ لبنان.

لمحة تاريخية عن صناعة الحرير في لبنان

يعود انتاج الحرير في لبنان إلى ما قبل زمن الامبراطور جوستينيانوس في ما كان يعرف بالقسطنطينية حينها. وفي العام 550 تقريباً، أرسل الامبراطور المذكور رجلي دين إلى الهند والصين لاكتشاف أسرار الحرير، الذي كان يعدّ عملة نادرة مثل الذهب. ونجحا في مهمتهما الاستطلاعية ، ونقلا بيض دودة القز الى القسطنطينية بواسطة العصيين اللتين كانا يتّكئان عليهما، فبدأت زراعة التوت لتمتدّ إلى دول المنطقة ومن بينها لبنان. وكان انتاج الحرير يومها يدوياً، وكان العامل يكرّ الشرنقة على يديه.

البدايات مع الفرنسيين

في العام 1835، أصاب مرض ما دودة القز في فرنسا، ولا سيما في عاصمة الحرير الفرنسية أي مدينة ليون. فقام المعنيون بالتفتيش عن أماكن أخرى لانتاج الحرير. ووقع اختيار البعض على لبنان حيث أسّست عائلة بورتاليس الفرنسية أول مصنع للحرير في بتاتر. وشجّع الفرنسيون الوافدون المزارعين اللبنانيين على تنمية زراعة التوت التي تركّزت في غالبية مدن وقرى جبل لبنان والمتن والشمال. واشتروا منهم الشرانق. فأصبح هناك قرابة أربعة ملايين شجرة توت. وتوالى تأسيس مصانع الحرير من قبل الفرنسيين واللبنانيين على حدّ سواء. وبدأ التصدير إلى مدينة ليون وغيرها، وتوطّدت العلاقات التجارية والتبادلية مع فرنسا واوروبا.

الثورة الاجتماعية والنهضة الاقتصادية

يؤكد رئيس جمعية الصناعيين اللبنانيين السابق وصاحب متحف الحرير في بسوس جورج عسيلي"للاقتصاد" أن الحرير حقق ثورة اجتماعية ونهضة اقتصادية كبيرة. فعلى الصعيد الاجتماعي، فتحت معامل الحرير الفرصة أمام المرأة اللبنانية في القرى والأرياف للعمل. ويقول عسيلي"للاقتصاد" إنه " شاهد صوراً تبيّن نحو 200 امرأة لبنانية تعملن معاً في مصنع واحد للحرير في نهاية القرن التاسع عشر."

وعلى الصعيد الاقتصادي، حققت صناعة الحرير ازدهاراً كبيراً. وتوسّع مرفأ بيروت منذ ذلك الحين لتأهيله وتهيئته لاستقبال السفن الكبيرة من أجل تحميل كمّيات الحرير. كما افتتح أول مصرف وهو البنك العثماني في لبنان، وتبعه كريدي ليونيه لضمان الاعتمادات لتجّار الحرير، بعدما كان العمل المالي مقتصراً في لبنان على النشاط الصيرفي. وعلى الصعيد التربوي، أمّن الفرنسيون الذين انتقلوا من ليون، التواصل بين الاباء اليسوعيين في كل من لبنان وفرنسا، ومهّدوا بذلك لتأسيس جامعة القديس يوسف التي تربطها علاقة وثيقة بجامعة ليون الفرنسية.

المجد الحريري... ثم الأفول

وصلت النهضة "الحريرية" ( نسبة إلى الحرير ) في لبنان إلى مجدها قبل الحرب العالمية الأولى. ولكن مع افتتاح قناة السويس، تأمّن عبور السفن والبواخر من الصين والهند واليابان إلى اوروبا بكلفة متدنية، فقويت المضاربة أكثر. وبدأت المصانع اللبنانية تخسر. ولم تعد قادرة على منافسة الدول الآسيوية. وكرّت سبحة إقفال مصانع انتاج الحرير. يقول عسيلي عن هذا الأمر: " من أقفل باكراً خلص بريشه، فيما أفلس الآخرون. في عكار مثلاً، كان آل فرعون وشيحا يملكان مصنعين كبيرين للحرير. ولمّا تأزّم الوضع، سارع المالكون إلى اغلاقهما وأسّسا بنك فرعون وشيحا بالرأسمال الذي كان مستثمراً في المصنعين."

ممّا لا شكّ فيه، أن صناعة الحرير وتصديره إلى الخارج غيّرا وجه لبنان على صعد عدّة لسنوات عديدة، وهذا ما لم يحصل حتى الآن مع صناعة المعرفة والمعلوماتية والبرمجة. فلماذا؟

التخوّف من الاستثمار الطويل الأمد

في اعتقاد الخبير في المجلس الوطني للبحوث العلمية د. حسن الشريف وكان عمل طويلاً مع منظمة الاسكوا على ملف التنمية الصناعية، أن سبب ذلك يعود إلى انقسام القطاع الصناعي في لبنان إلى قسمين: صناعات تقليدية وهي تمثّل نسبة لا بأس بها، تركّز انتاجها على السوق المحلي ولا تهتم كفاية بالتصدير، مقابل صناعات أخرى، ولكن عددها قليل، تطوّرت من خلال التجديد والتحديث والمتابعة والأبحاث والتسويق والتكنولوجيا. ويقول الشريف "للاقتصاد": " إن التحفيزات المقدّمة على رغم أهميتها غير كافية، وخصوصاً على صعيد دعم الأبحاث واعفائها من الضرائب. كما أن دولاً صناعية تفتح اعتمادات على عقود التصدير. أما نحن في لبنان فقد أقرّينا قبل فترة وجيزة قانون اعفاء الأرباح المتأتية من الصادرات الصناعية من ضريبة الدخل بنسبة 50%. كما أن الاستثمار في الصناعة طويل الأمد ويحتاج إلى عشر سنوات كمعدّل للبدء بتحقيق الأرباح. وهذا الأمر يتخوّف منه المستثمرون في ظلّ الأوضاع السياسية والأمنية الراهنة."

تدنّي الخدمات والأمن المضطرب

بالنسبة إلى صناعة المعلوماتية، فهي أصبحت متقدّمة في لبنان، ويبغ حجم أعمالها ( Turnover ) 400 مليون دولار. لكن تعميم هذا القطاع الواعد أكثر وتوسّعه لا زال دونه عقبات، شقّ منهامرتبط بتدنّي مستوى شبكة الاتصالات الداخلية والخارجية وشبكة الانترنت والهواتف الذكية مقارنة بدول الجوار، وشقّ ثان متعلق بالأمن المضطرّب، رغم تمتّع لبنان بنسبة عالية من الاستقرار على عكس دول الجوار. وأصبح من المعلوم أن مصرف لبنان أصدر التعميم 331 لدعم هذه الصناعات وتحفيزها.

التمويل بين 100 الف $ و5 ملايين $

يقول عضو مجلس ادارة "بيريتيك" نقولا روحانا "للاقتصاد" إن تمويل المشاريع التكنولوجية والمعرفية يتراوح بين 100 الف دولار وخمسة ملايين دولار. ويرأس روحانا أيضاً مجلس ادارة الصندوق الاستثماري IM Capital برأس مال 15 مليون دولار، وهو برنامج دعم أنشىء حديثاً ويوفّر ثلاثة عناصر: مطابقة رأس المال، وضمان حقوق المساهمين، والمساعدة التقنية لمجموعة واسعة من الشركات الناشئة ومساعدتها على الحصول على التمويل اللازم للانطلاق وتحسين قدراتها التنافسية ونمو ايراداتها.ويشرح روحانا "للاقتصاد" أن الصندوق لا يمنح القروض بل يساهم في رأس مال الشركة المنشأة حديثاً بعد دراسة ملفها. وأصبح 10% من رأسمال الصندوق مستخدماً، وهي نسبة لا بأس بها في فترة زمنية قصيرة نسبياً.

منظّمة التجارة العالمية: حلّ أو مشكلة؟

لم ينضم لبنان إلى منظّمة التجارة العالمية حتّى الآن. فهل ينجم عن ذلك قلّة ثقة دولية بقدرة لبنان الاقتصادية وبالتالي تراجعاً في الاستثمارات الخارجية؟

في حديث مع "الاقتصاد"  أكد الرئيس التنفيذي لشركة استشارية المدير العام السابق لوزارة الاقتصاد د.فادي مكي أن لانضمام لبنان إلى منظمة التجارة العالمية فوائد اقتصادية جمّة، ويفتح أمامه باب الدخول إلى أكبر ناد اقتصادي عالمي بات يضمّ أكثر من 160 دولة، فيما البقاء خارج هذا النادي كمن يغرّد خارج السرب."

أضاف:" بمجرّد الانضمام، يصبح بامكان لبنان التمتّع بالميّزات التفاضلية الكثيرة التي يستفيد منها جميع الاعضاء على صعيد التجارة العالمية الحرّة. ولن يكون بامكانه الحصول عليها في ما لو بقي خارج المنظمة. كما أن الانضمام يعزّز الفرص المتاحة ويمنع عزلة لبنان عن المجتمع الدولي أو استفراده بالمفاوضات الثنائية."

وعن طبيعة هذه الميزات التفاضلية يوضح مكي أنها تتعلق أولاً " بجذب وتشجيع الاستثمار الأجنبي على التوظيف في لبنان. فالعضوية في المنظمة تعتبر بمثابة شهادة اعتراف من قبل المجتمع الدولي ببيئة الدول الحاضنة والمهيّأة للاستثمارات من خلال الشفافية والتسهيلات والاجراءات التحفيزية والقانونية والادارية التي تعتمدها، وتخفّف عن الدول التي لا زالت خارج إطار المنظمة بذل الجهود الكبيرة لاقناع المستثمرين بأن الأرضية فيها مؤمّنة للاستثمار".

الاتفاقيات الدولية فرصة ايجابية إذا...

ورداً على سؤال " للاقتصاد" عن الضرر الذي لحق بلبنان من توقيعه اتفاقية التجارة الحرة مع اوروبا على صعيد تخفيض صادرات لبنان إلى اوروبا في مقابل رفع الاستيراد من اوروبا الى لبنان، أوضح مكي أنه " يعتبر أي اتفاقية بمثابة فرصة غير ضارّة على الأقل إذا أحسنت توظيفها لمصلحتك. وفي الوقت الذي هدفت اتفاقية التجارة الحرة مع اوروبا الى تخفيض جمركي الى الصفر، تتمّ المفاوضات مع منظمة  على أساس تخفيض جمركي يختلف من سلعة الى اخرى. إذاً لا الغاء للرسوم الجمركية بشكل كامل، كما أنه في حال حصول أي مخالفة لمضمون الاتفاقية، يصار إلى التحكيم وهذا ياخذ وقته ويمتدّ أشهراً واحياناً سنوات، فتكون الدولة المخالفة قد استفادت من الفترة الزمنية للاستمرار بمخالفتها ريثما يصدر الامر في نهاية الأمر وتلتزم بمضمون الاتفاقية".

وإذ اعترف مكي" بأن العديد من الدول المنضوية في المنظمة تخالف التزاماتها"، نصح المفاوضين اللبنانيين باظهار نيّة لبنان بالالتزام بمضمون الاتفاقية حتى تقبل عضويته، ومن ثمّ يتصرّف لبنان كبقية الدول الأعضاء المنتسبة إلى المنظمة."

وقال:" لست مع اتّخاذ اجراءات حمائية بالمطلق وبالأخص أثناء المفاوضات الجارية مع المنظمة العالمية للتجارة، وفي جميع الحالات يجب أن تكون أي اجراءات مبنية على الاستثناءات المتاحة فضلاً عن الدراسات العلمية والموثّقة، وضمن استراتيجية للنهوض بالانتاج الوطني، وليس بهدف حماية سلعة معيّنة لتأمين استفادات ضيّقة وخاصة، وبالتالي تكون مساوىء هذا القرار أكثر من منافعه".

الخيط الرفيع

انعدام الفرص لاعادة احياءصناعة الحرير في لبنان لأسباب عديدة مرتبطة بعدم القدرة على المنافسة، ولقد تثبّتت هذه النتيجة في مؤتمر دولي نظّمه جورج عسيلي قبل سنوات بمشاركة خبراء لبنانيين وأجانب، لم يقطع خيط الحرير المنسوج في التراث البناني، وتمسّك به المصمّمون اللبنانيون أصحاب الشهرة العالمية، وحيّكوه أزياء رائعة تتسابق الملكات والأميرات ونجمات السينما على ارتدائها. هذه التجربة الناجحة لا بدّ أن تشكل دعوة واقعية وعقلانية إلى التسليم بوجوب الخروج من صناعات لم تعد قابلة للحياة في لبنان بسبب ضآلة القدرة التنافسية وليس بسبب الجودة في الانتاج، مع التحوّل الجريء والانخراط السريع في صناعات جديدة ذات قيمة مضافة عالية تغيّر وجه لبنان مرّة ثانية كما فعل الحرير وسحره...