يجتمع خبراء اقتصاديون ورجال أعمال بعد غد الأربعاء لمناقشة بنود المذكّرة الاقتصادية التي أصدرها البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي بمثابة الرسالة العامّة الرابعة لمناسبة انتخابه بطريركاً على كرسي انطاكيه. وجاء في المقدّمة " ان ظروفاً شديدة الخطورة تدفعنا ( أي البطريرك ) إلى إصدار مذكّرة اقتصادية  بعنوان " اقتصاد لمستقبل لبنان "، ومن بينها الوضع السياسي المتأزّم والفراغ في سدّة رئاسة الجمهورية مع نتائجه المقلقة والخطيرة على المستويات الوطنية المختلفة، الوضع الاقتصادي الذي ينبىء بالخطر بسبب ارتفاع الدين العام المتزايد، والشلل الاقتصادي الحاصل، أعداد النازحين السوريين المتنامية وتفوق حالياً المليون ونصف المليون نسمة، التحرّكات العمّالية والنقابية، وطريقة مواجهة القضيّة التي اتّخذت شكل تناقض حادّ بين المطالب وتعاطي القطاعات الاقتصادية المختلفة معها، وطريقة تدخّل الدولة".

محتوى المذكّرة... كلّ الوصفات

وتحتوي المذكّرة إلى المقدّمة، ثلاثة فصول:

1- الفصل الأول بعنوان " بنية الاقتصاد اللبناني "، ويعالج الوساطة في التجارة والخدمات، التوجّه الريعي، ضعف التضامن والتكافل، الدستور وضرورات الاصلاح.

2- الفصل الثاني بعنوان " البعد الاجتماعي في اقتصاد السوق " ويعالج اقتصاد السوق وكرامة الانسان، حرية السوق ومبادىء العدالة والتضامن والتكامل، دور الدولة، البيئة الانسانية شرط لاقتصاد سليم، التعاون بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، الانماء الشامل.

3- الفصل الثالث بعنوان " مرتكزات اقتصاد المستقبل "، ويعالج رؤية اقتصادية – اجتماعية، اصلاحات ضرورية في بنية اقتصادنا الوطني، مقتضيات استكمالية للاصلاح.

في المبدأ، تعتبر أي مذكرة " مراجعة علمية لواقع معيّن مع تحليل واستنباط استنتاجات وحلول لهذا الواقع". قرأت " الاقتصاد " المذكّرة مع الخبير المالي والاقتصادي ونائب رئيس الجامعة اللبنانية الالمانية الدكتور بيار الخوري. فرأى أنها "تتضمّن كل الوصفات الاقتصادية الجميلة إلى حدّ لا يمكن توقّع مدى القدرة المتوفّرة والامكانات المتاحة أمام تبنّيها "، ملاحظاً أن الحلول المطروحة " تميل أكثر نحو المفهوم الاشتراكي الاوروبي".

ردم الفجوة بين الأغنياء والفقراء

وسجّل الخوري ملاحظات عدّة خصوصاً حول عدم وجود معالجة واضحة لموضوع " اعادة توزيع الدخل الوطني بين الربح والأجر." فعلى مدى سنوات الحرب في لبنان وما بعدها، حصل تدهور واضح في حصّة الأجور من الدخل نسبة إلى الناتج الوطني، حيث كانت تقارب 45% قبل الحرب، وتدهورت الى حوالى 20% في السنوات الأخيرة. وأدى ذلك إلى اتساع الفجوة بين أصحاب الأجر وأصحاب الأرباح. ولقد لفتت المذكرة النظر الى الفجوة الواسعة بين الفقراء والأغنياء. ولكن المطلوب هو وضع ميثاق اجتماعي بين الطبقات كي لا ينزلق لبنان الى صراع الطبقات. وعلى هذا الميثاق أن يتضمن استراتيجية لتعزيز حصّة الأجورمن الناتج الوطني بشكل جذري بحيث يستعيد لبنان تدريجياً المستوى الذي كانت عليه الأجور قبل الحرب.

رفع مستوى الدخل

ويضيف الخوري: " إن مباهاة اللبنانيين بكونهم ينتمون إلى حضارة قريبة من الحضارات الاوروبية والغربية عموماً يتطلب أولاً أن نحافظ على مستوى دخل الأجراء بذات النسبة التي تحافظ عليها تلك الدول التي تصل في بعضها إلى أكثر من 50% من الناتج المحلي، لا سيما ان لبنان تتهدّده أخطار جدية تتمثل بالنزوع خارج الدولة. ولقد أثبتت الدراسات العلمية أن هناك سببين رئيسيين لهذا الأمر:

1- ارتفاع مستوى البطالة ووصولها إلى نسبة 25 % عموماً و 35% في صفوف الشباب.

2- تدني مستوى الدخل لدى الفقراء.

وعمّا إذا كانت المنطلقات التي حاولت المذكرة البطريركية التشديد عليها سليمة، ردّ الخوري على سؤال " الاقتصاد " بالايجاب، لكنه استدرك أنها " تحتاج إلى تحديث عناصر رقمية أو أقله نسبية في العلاقة بين أصحاب الأجور وأصحاب الثروات".

الاقتصاد الرقمي وصناعة المعرفة

وفي حال أعطت المذكرة مجالات الاقتصاد الحديث حقّها بما فيه الكفاية، يقول في هذا الصدد: " ان الاقتصاد الرقمي وصناعة المعرفة قطاع من شأنه أن يؤمن دورة اقتصادية داخلية واسعة لها أفق تصديرية كبيرة وواعدة. وهذا الاختصاص يمكنه أن يستوعب الوافدين الجدد إلى سوق العمل وأن يحوّل الكفاءات اللبنانية إلى كفاءات منتجة بكافة الاختصاصات بدل أن نجد أكثر من 30% من خريجي الجامعات يعملون خارج اختصاصاتهم. وهذه الفرصة المتاحة في اقتصاد المعرفة تتيح الملاءمة بين الأجر وبين ايجاد مصلحة خاصة تحتاج إلى رأسمال متواضع يمكنه أن يتامن من خلال صناديق وطنية متخصصة أو قروض مصرفية مدعومة مع تخفيف الشروط المتعلقة بكفالة المقترض إلى حدها الأدنى إذ ان هذه الشروط التعجيزية أحياناً تمنع الكثير من الشباب من المباشرة في عملهم الابتكاري الذي قد يحتاج الى 10 الاف دولار فقط للانطلاق به. ويمكن لهذا القطاع أن يعمل وينمو ويتطور بسرعة هائلة بغض النظر عن الظروف الاقتصادية والأمنية لأنه يدار بمعظمه من محل الاقامة، ويسوّق الكترونياً بالداخل والخارج".

قراءة واقعية من منظار آخر

حملت "الاقتصاد" المذكّرة البطريركية إلى مزارع مخضرم من أبناء الدامور لا يزال يعمل في أرضه في السهل. وطلبت إليه قراءتها بتمعّن والتعليق عليها. وبعد أسبوع التقت "الاقتصاد" المزارع الداموري نفسه فسارع إلى القول: " لست بالخبير الاقتصادي لأبدي رأياً. وإذ أهنّىء الفريق الكبير الذي أعدّ هذه الدراسة الشاملة لكني أعتبرها كلاسيكية وعامة، كوني لم أقرأ فيها اسم قرية لبنانية مهجرّة، ولم أجد فيها أي ذكر لسبب عدم اكتمال عودة المهجرّين إلى قراهم في الشوف وعاليه وشرق صيدا، ولم ألمس فيها حلاً جذرياً لايقاف المسيحيين عن بيع أراضيهم. ولقد علمت أن عدداً من الباحثين المهمّين سيلتقون في كسروان لمناقشة المذكرة. جيد جداً.

ولكن لا أجد أي مشكلة اقتصادية كبيرة في كسروان. فكيف سيتلمّس هؤلاء الخبراء الحلول الناجعة من دون التجوال في الدامور مثلاً حيث مئات الشقق السكنية فارغة، وحيث 50 الى 100 من أبنائها كحد أقصى فقط يعملون في سهل الدامور الذي تبلغ مساحته 3 ملايين متر مربع فيما يريد الداموريون التخلص من الزراعة غير المربحة والهروب الى التجارة والمشاريع السياحية. علماً ان الدامور هي أكبر مدينة مارونية ساحلية في قضاء الشوف ولم يرجع إليها إلا حوالى 17% من أبنائها، ولا تبعد عن مطار بيروت الدولي أكثر من 10 كلم، وعن مدينة الحدث أو وادي شحرور 8 كلم".

ويضيف المزارع المخضرم: "لم نعد نسمع عن بيوعات لمسيحيين في قراهم. ولكن هل توقفت هذه العملية فعلاً؟ وهل عالج المسؤولون الرسميون والكنسيون أسبابها بطريقة جذرية؟ لا أريد أن يفسّر كلامي من منطلق طائفي. ولكن ذلك الامر مهم جداً  في إطار التمسك بالعيش المشترك".

بين القراءة العلمية والقراءة الواقعية، لا تجد "الاقتصاد" سبيلاً إلا دعوة المسؤولين من أصحاب القرار إلى مواءمة هذين الطرحين بطريقة توفيقية توصل بلبنان حقاً إلى حلّ أزمته الاقتصادية المستعصية والمستفحلة والخانقة والتي قد تدخل اللبنانيين في المحظور في حال لم يتم تدارك الأمر بسرعة بعيداً عن رؤى ودراسات ومذكرات وخطط واسترتيجيات قد تكون مستحيلة التطبيق في نظام لبناني فريد من نوعه في العالم.