قرر مجلس "​الكونغرس​" الأميركي إخضاع الاحتياط الفدرالي الأميركي "المركزي" لسلطته في التدقيق على حساباته، في تصويت شمل أكثر من الثلثين من المجلس فيما امتنع حوالي 92 نائباً.. ماذا يعني ذلك والى ماذا يهدف وخصوصاً في هذه الفترة بالذات؟

بين "باركليز" و"غرينسبان"

إذا أردنا أن نحيط بجوانب حيثيات هذا القرار التي وضعت أكبر سلطة نقدية في العالم تحت أعين البرلمان الأميركي، علينا أن  نرى ما الذي حصل في بريطانيا الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة، ولفضيحة التلاعب بأسعار الفائدة في بنك "باركليز" الانكليزي، والذي تمكن من تمرير بيانات كاذبة على البنوك ومن بينها "الاحتياط" الأميركي.

ليس هذا وحسب، علينا أن نعلم ماذا جنت يدا مجلس الاحتياط الفدرالي برئاسة آلان غرينسبان "الجمهوري" الليبرالي الهوى، والذي حكم طوال الفترة التي سبقت أزمة الرهن العقاري الأميركي عام 2007، والتي تداعت مفاعيلها صولاً لأزمة الائتمان عام 2008، والتركة الثقيلة التي  أورثها لخلفه "برناكي" الذي يقال عنه انه من كبار رجال الاقتصاد والمال، والنهج والآليات التي يتبعها منذ تسلمه سلطاته في فبراير من العام 2006.

يجمع الخبراء أنه ما من قرار اقتصادي او مالي على مستوى رسمي في البلاد ، لا تقبع وراءه السياسة، وعلى العكس ايضاَ، فآلان غريبنسان الحاكم السابق للاحتياطي الفدرالي الذي وصف بحامي الدولار وتميز بنزوعه لسياسة التشدد الحكومي في الإنفاق وزيادة موارد الموازنة من خلال رفع الضرائب ورفع الفائدة، إصطدم كثيراً  بالنزوع المفرط لجورج دبليو بوش   _الرئيس الأميركي الأخير الذي رافق عهده_، نحو الإنفاق على التسلح  وتمويل الحروب وما سمي بـ"الحرب على الإرهاب"، والذي كبّد الخزينة الأميركية تريليونات الدولارات على مدى حوالي سبع سنوات (2001 - 2008)  اي منذ احداث 11 سبتمبر، وحتى نهاية فترة حكمه.  وبالمقابل لجأ الى تخفيض الضرائب على الدخل بهدف التعويض عن تراجع مستوى جماهيريته من جهة ، ولكسب رضا أعضاء الحزب الجمهوري من جهة ثانية ، ولعل هذا ما أسهم في تراكم الأزمات  ككرة الثلج، ووضع أكبر اقتصاد في العالم في مهب الريح وسط ديون وصلت الى ما يفوق الـ 15 تريليون دولار.

التركة الثقيلة

لم يخضع الاحتياط الفدرالي يوماً الى التدقيق من قبل الكونغرس، بل هي المرة الأولى في العصر الحديث التي يتم فيها وضع هذه السلطة تحت أعين الكونغرس مباشرة، وبهذا الصدد يقول خبراء، ليست التركة الضخمة التي ورثها الرئيس الحالي للاحتياط، اي ما تجعله خاضعاَ لأعين الكونغرس، بل هي السياسات التي وضعها وتم نقاشها في الكونغرس عدة مرات، فيما تم الموافقة على الكثير منها، كسياسة تحفير وإنعاش الاقتصاد، وبما يسهم في خلق فرص عمل وتراجع نسب البطالة، غير أن الاحتياط الفدرالي لم يعلن عن إجراءات فعلية لهذا التحفيز الموعود، وهو ما يضغط باتجاهه الكونغرس، فالولايات المتحدة تعتمد على التصنيع والاستهلاك، لزيادة مواردها،  بالوقت الذي لا يزال القطاع المصرفي قاصراً في لعب دوره في تشجيع الاقراض للأفراد، وسط تراجع القدرات الشرائية من جهة، وعدم استقرار قطاع الوظائف وسوق العمل من جهة ثانية ، ولعل هذا ما تفوق به "غرينسبان" على نظيره سابقاً والذي أطلق العنان للمصارف وشركات الربا للعب دور في التسهيلات الائتمانية للأفراد والقروض العقارية ، وإن تسبب ذلك في خلق أزمة الرهن العقاري وإفلاس الكثير من الأفراد والشركات وخسارة وظائفهم وأعمالهم.

في المقابل يأخذ برناكي هذه العوامل كافة بالاعتبار، ولعل هذا ما يجعله يلقي بين الفترة والأخرى الى ملعب رجال السياسة، ويعتقد أن تعافي الاقتصاد الأمريكي تعرقله الأوضاع المالية الأكثر تقييداً بسبب أزمة ديون أوروبا وعدم اليقين حول السياسة المالية الأمريكية بسبب ارتفاع حجم الديون السيادية من جهة ، وعدم اتفاق اعضاء الكونغرس على الموازنة حتى الآن.

وقال  الأسبوع الماضي امام لجنة في مجلس الشيوخ: " إن تعافي الاقتصاد الأميركي يتباطأ بسبب  المخاوف من تداعيات أزمة منطقة اليورو، وارتفاع معدلات البطالة  والتي يبدو أن تحسنها يبدو بطيئاً بشكل مخيب للآمال، إذ لا تزال النسبة تفوق الـ 8%،  مع توقعات لأن تنخفض فقط الى حوالي 7% عام 2014."

وحتى الآن لم يتمكن برنانكي من إطلاق سياسات من شأنها تحفيز الإنفاق وبالتالي إنعاش الاقتصاد لإنه يعتبر أن ذلك لا يمكن أن يتحقق إذا لم يتوصل أولاً أعضاء الكونغرس لاتفاق يجنّب البلاد أزمة حول الموازنة، خصوصاً في ما يتعلق ببنود الدين والموارد فيها، معتبراً أن عدم التوصل لاتفاق سيؤدي لزيادة الضرائب وتخفيض كبير في الإنفاق مع نهاية هذا العام، ما يعني ان التقشف وهو حلو الأمرّين قد يكون الحل الوحيد المتاح أمام المعنيين. ووداعاً لتحفيز الاقتصاد!

وأثناء خطابه الأخير أمام مجلس الشيوخ قال برنانكي إن ​الاحتياطي الفدرالي​ مستعد لاتخاذ المزيد من الخطوات لإنعاش الاقتصاد الأميركي، رغم أنه لم يكشف عن تفاصيل محددة، سيما أن مجلس الشيوخ كان قد أعلن الشهر الماضي ان تمديد برنام شراء سندات الدين لتعزيز الاقتصاد، غير أن أعضاء الكونغرس ألقوا بالكرة مجدداً في ملعب الاحتياط الفدرالي، لاستخدام وسائل تحفيز أخرى.

واعتبر مستثمرون أن رئيس الاحتياط الفيدرالي خيب أمالهم،  إذ لا يزال متمسكاً برسالة الانتظار والترقب التي قدمتها لجنة السياسة النقدية للبنك المركزي في حزيران الماضي.

الكرة في الملعب

غير أن برنانكي يبدو أنه في خضم كل ذلك بدأ يتعرض ليس فقط لانتقادات ، بل لتحميله وزر عدم اتخاذه خطوات حثيثة لإقناع المستثمرين من الإقدام، فيما يشبه بلعبة الكرة ، وأثناء الاجتماع نفسه وجّه أعضاء مجلس الشيوخ أسئلة على برنانكى حول فضيحة "بنك باركلز"  والمتعلقة  بالتعامل مع معدل الفائدة العالمى المعرفة بـ"ليبور"، أجاب  برنانكى بأن مسوولى بنك الاحتياطى الفيدرالى فى نيويورك علموا بذلك خلال الأزمة المالية، وأبلغوا المسؤولين البريطانيين القائمين على تنظيم الأمور المالية.

وكان بنك باركليز قد دفع مؤخرا غرامة قدرها حوالى 450 مليون دولار إلى حكومة الولايات المتحدة وبريطانيا بعد أن قدم معلومات كاذبة للمسؤول البريطانى الذى يحدد معدل الفائدة يومياّ، وكان ذلك فى إطار محاولة لجعل بنك باركليز يبدو أقوى مما كان عليه أثناء الأزمة المالية.

بانتظار جلاء الأمور، من المؤكد أن هناك أمور كثيرة سوف تطفو على السطح، في حال تم التدقيق ببيانات وعمليات المركزي، فقد تعودنا ومنذ فضيحة شركة "أنرون" للغاز وشركات مصرفية ومالية أميركية أخرى برزت أسماؤها خلال أزمة الرهن العقاري ، ثمة فضيحة تكشف عن فضائح أخرى...