بدأ العدّ العكسي لاحياء الذكرى الـ 18 لزيارة البابا القديس يوحنا بولس الثاني إلى لبنان. وخلال هذه الزيارة الحبرية التي تمّت يومي السبت 10 والأحد 11 أيار 1997 تمّ اصدار الارشاد الرسولي ما بعد السينودس للجمعية الخاصة من أجل لبنان " رجاء جديد للبنان."

شارك أكثر من مليون لبناني من كلّ الطوائف والمذاهب مباشرة في مختلف المناسبات التي أحياها، بدءاً باستقباله على طول الطريق الممتدّ من مطار بيروت الدولي وصولاً إلى مقرّ السفارة البابوية في حريصا، وخصوصاً في القداس الالهي الذي أحياه في وسط العاصمة قبل ظهر الأحد، وفي لقاء الشبيبة في مزار سيّدة لبنان.

ولم تقتصر المشاركة على اللبنانيين المقيمين، بل توافد الالوف من الولايات المتحدة واستراليا وكندا والبرازيل واوروبا وقبرص والعراق والاردن وسوريا لتمضية يومين مع أول بابا يزور لبنان. كيف لا؟ وهو الذي أطلق يوم الشبيبة العالمي ( Journee Mondiale de la Jeunesse ) أول مرّة عام 1986 ، وكانت فرصة تجمع مئات الالوف يتقاطرون كل سنتين أو ثلاثة من مختلف دول العالم لاحياء هذه المناسبة، وكلّ مرّة في بلد معيّن.

دوره في تحريك الاقتصاد العالمي

البابا يوحنا بولس الثاني ( اسمه كارول جوزف فويتيلا ) بولوني الأصل. زار 130 بلداً تقريباً. شاهده مباشرة  (وليس عبر التلفزيون) أكثر من 500 مليون شخص في أنحاء العالم، فضلاً عن الـ160 مليون شخص الذين قصدوا روما لرؤيته أثناء ولايته الحبرية، التي امتدّت طوال 26 عاماً وخمسة أشهر و18 يوماً، من تاريخ انتخابه في 16 تشرين الأول 1978حتى وفاته في 2 نيسان 2005. 

ساهم في تحريك الاقتصاد الدولي، وفي تنشيط السياحة العالمية بشكل غير مسبوق. ولا تعتبر شيئاً الموازنات التي كانت تخصّصها الدول تحضيراً لزياراته المحدّدة، ولا مئات ملايين الدولارات التي صرفت على بطاقات السفر والاقامة في الفنادق وحجز السيارات وطباعة الكتب والمنشورات والأعلام والصور والقمصان والأفلام، أمام نتائج التغييرات الجذرية التي أحدثها في المفاهيم العالمية وقلب فيها الموازين الدولية رأساً على عقب. ومن الصعوبة بمكان على مراكز الأبحاث والدراسات الاقتصادية العالمية أن تبيّن بفعل سياساته ودوره السياسي الكبير، مدى انعكاس التغييرات التي أجراها، ومدى تأثيرها في تخفيف الاضطرابات بين الشعوب، وفي احداث بعض النمو والاستقرار الاقتصادي في النظام العالمي الجديد المليء بالحروب والنزاعات والأطماع بالثروات والموارد الطبيعية.

في 18 تشرين الأول 1978، أطلق في أول عظة بابوية له نداء ناشد فيه شعوب الأرض " ألا تخافوا ". ودعا إلى " فتح حدود البلدان على مصراعيها، وفتح حدود الأنظمة السياسية والاقتصادية، والحقول الثقافية والحضارة والتطوّر."

سقوط الشيوعية وتبنّي الليبرالية

حيث ولد في 18 أيار 1920 وتربّى ونشأ قبل وأثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، عانى الشاب كارول فويتيلا من ظلم القبضة الشيوعية الحديدية التي أحكمت الطوق على بولونيا، قامعة الحريّات العامّة والخاصة. وبعد انتخابه على رأس الكنيسة الكاثوليكية، دعم حركة التضامن العمالية برئاسة ليش فاونسا، وعمل بكدّ  لا متناه من أجل تحرير بلده وبالتالي كامل اوروبا الشرقية الخاضعة لجنرالات السوفيات، فكان له ما أراد وأكثر. وكان سقوط حائط برلين عام 1989 وانهيار الاتحاد السوفياتي في العام التالي، مرتبطين بعمل البابا يوحنا بولس الثاني. وكان لنجاح زياراته الخارجية، ومعايشته 3 رؤساء فرنسيين، وخمسة رؤساء أميركيين وسبعة زعماء سوفيات وروس على التوالي، المساهمة الأساسية في زعزعة النظام الشيوعي. ولقد اعترف رئيس الاتحاد السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشيف أن " كل ما جرى في اوروبا الشرقية من تغيير في السنين الماضية لما كان ممكناً حصوله لولا وجود البابا يوحنا بولس الثاني، ولولا الدور السياسي الكبير الذي لعبه على الساحة الدولية."ولذلك اعتبر من أكثر الشخصيات المؤثرة على الصعيد السياسي في القرن العشرين.

ونجم عن هذا التحوّل التاريخي توحيد المانيا، التي باتت تتسابق مع أقوى اقتصاديات العالم أي الولايات المتحدة والصين واليابان على الأولوية، فضلاً عن انفتاح دول اوروبا الشرقية أمام منظومة جديدة من الاصلاحات السياسية والاقتصادية قرّبتها إلى مفهوم الدول الغربية ذات الاقتصاد الليبرالي الحرّ.

يروي صناعي لبناني لـ"الاقتصاد" كان يصدّر ألبسة إلى المجر في فترة السبعينيات. ولمّا اكتشفت أن الميزان التجاري بينها وبين لبنان مختلّ لمصلحة الاخير، فرضت عليه أن يستورد من بلغاريا مواد صناعية بنفس قيمة المواد التي كان يصدّرها، وإلا منع من التصدير. فاضطّر إلى شراء الألبان والأجبان البلغارية المنشأ للمحافظة على سوقه التصديري إليها. هذا كان زمن الشيوعية. أمّا الآن، وبعد سقوط الدومينو، أصبحت الأسواق مفتوحة على بعضها، وتحرّرت التجارة بين اوروبا الشرقية وسائر دول العالم.

التأثير الألماني في انتخابه

اقترحه كاردينال فيينا فرانتز كونيغ Koneg الملقّب بـ "ضمير النمسا "La Conscience de l’Autriche خلفاً للبابا يوحنا بولس الأول الذي توفّي بشكل مفاجىء بعد 33 يوماً على حبريته. فقاد الكرادلة الألمان حملة انتخاب البابا الـ 264 غير الايطالي منذ البابا الهولندي ادريان السادس في 1520، وأول بابا بولوني في تاريخ الكنيسة.

ونشطوا على هذا الصعيد مع الكرادلة الأفارقة والآسيويين والأميركيين اللاتينيين حيث لهم في صفوف هؤلاء نفوذ مؤثّر. فرجال الدين الألمان يمثّلون كنيسة مقتدرة من حيث الامكانات المالية. وكانوا غالباً ما يتنقلون خارج اوروبا في مهمات انسانية واجتماعية مهمة على صعيد دعم المدارس والمستشفيات في افريقيا واميركا الجنوبية.

واضع سيرة البابا يوحنا بولس الثاني بعنوان" شاهد على الرجاء والأمل " الكاتب الأميركي جورج ويغل Weigel كتب" كان همّ الكرادلة انتخاب بابا راع، رجل لديه الخبرة على الأرض."

اللقاء المسكوني في اسيزي

من بين أبرز الأحداث التي طبعت حبريته، دعوته رؤساء الأديان الى لقاء مسكوني في اسيزي في 27 تشرين الاول 1986 للمشاركة في يوم عالمي للصلاة. وفي أول مرة بالتاريخ، تمثلت كل الأديان في لقاء جامع أكثر من 194 من رؤساء الأديان من أجل الصلاة للسلام. ارادته الكبيرة بتقريب الأديان بين بعضها، تركت أيضاً تفاعلاً كبيراً على العصيد الاقتصادي بين شعوب تلك الأديان، تمثّلت ببناء الثقة في ما بينها، وولّدت في ما بعد مجالات تجارية وتبادلية وسياحية أكثر رجابة وأوسع مجالاً.

الغاء ديون افريقيا

في العام 2000، دعم البابايوحنا بولس الثاني رسمياً الغاء الديون المترتّبة على دول افريقيا. وهذه مباردة أطلقها بوب غيلدوف وبونو ( مغنيان وملحّنان ايرلنديان ذائعا الصيت بدفاعهما عن قضايا شعوب افريقيا ).فتنازع هذه الدعوة فريقان واحد مؤيّد وأخر معارض.

بطبيعة الحال، أيّدت هذه الدعوة الدول المعنية في محاولة منها لابعاد شبح الافلاس عنها، ولاتاحة الفرصة أمامها لايجاد وسائل تمويل جديدة بعد الغاء ديونها. فيما انطلقت الدول المانحة والمقرضة المعارضة لهذا الطرح من خشيتها خسارة أموالها اولاً، وتقلّص نفوذها الاقتصادي والسياسي في هذه البلدان، في حال تحرّرها من أعباء الديون.

في شباط 1984، أسّس منظمة يوحنا بولس الثاني للساحل الافريقي الممتدّ من الأطلسي الى البحر الأحمر. وفي شباط 1992، أسّس جمعية PopulorumProgressio لفقراء أميركا اللاتينية. أسّس ايضاً الأكاديمية الحبرية للحياة، والأكاديمية الحبرية للعلوم الاجتماعية.

في العام 1989، التقى رئيس أكبر قبيلة في البرازيل Kayapo الزعيم راوني Raoni لمناقشة سبل المحافظة على غابات الأمازون.

وبهدف تفعيل العلاقات على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ضاعف عدد البعثات الديبلوماسية في الخارج من 85 في العام 1978 الى 174 عند انتهاء حبريته.

المرض والوفاة والتقديس

هذا يعني أن اهتماماته تعدّت الشؤون الراعوية والكنسية، وامتدّت إلى معالجة قضايا المرأة ورفض الاجهاض وحقوق الفقراء والمحتاجين، وإلى المسائل الاجتماعية والبيئية. لكنّه لم يحكم الكنيسة فعلياً خلال السنوات الخمس الأخيرة من حبريته بسبب تدهور صحّته. خضع لستّ عمليات جراحية. أصيب بالباركنسون. توفّي في 2 نيسان 2005 بعمر 84 عاماً. دفن في الفاتيكان في 8 نيسان 2005.

بلغت حبريته 9664 يوماً. وهي ثالث أطول حبريّة بعد حبرية القديس بطرس التي امتدّت 37 عاماً ( 25 عاماً منها في روما ). وثاني أطول حبرية قضاها البابا بيوس التاسع بين 1846 و 1878 وامتدت 31 سنة و7 أشهر و23 يوماً.وفاته لم تغيّر في طبيعة علاقته مع أبناء جنسه من البشر. فلقد زحف أكثر من 3 ملايين شخص إلى روما بين 2 و 8 نيسان 2005 لالقاء النظرة الأخيرة عليه. ملوك ورؤساء ورؤساء حكومات الدول شاركوا. أحصي أكثر من 500 ألف شخص في ساحة القديس بطرس يوم الجنازة، وأكثر من 600 ألف في الشوارع الملاصقة والتي جهّزت بشاشات عملاقة. ومنح مركز الصحافة التابع للكرسي الرسولي  أكثر من 6 الاف بطاقة اعتماد للصحافيين والمصوّرين والمراسلين لتغطية الحدث. وتولّت 137 محطة تلفزيونية في 81 بلداً بثّ الحدث مباشرة على الهواء الذي قدّر عدد متابعيه بملياري نسمة.

في مماته كما في حياته، الأمر سواء. أرقام قياسية لم يحقّقها انسان مرّ على وجه الأرض حتى الآن.

ومهما قيست المسافات التي قطعها في تجواله حول العالم والتي قيل إنها 3 مرّات المسافة بين الأرض والقمر، فإن تواضعه كان يحمله دائماً إلى ترداده " أنه شخصياً في حاجة إلى الصلاة ". هو من أطلق شعار " لبنان الرسالة " بين الشرق والغرب، على أمل أن " لا تتكرّر عذابات اللبنانيين التي عاشوها في السنين الماضية " كما قال أثناء زيارته التارخية إلى لبنان.