ينتج لبنان حالياً تسعة ملايين زجاجة نبيذ سنوياً. ولقد جذبت زراعة الكروم مستثمرين جدداً في البقاع وجزين والبترون ومناطق لبنانية أخرى، طامحين إلى الدخول في عالم صناعة النبيذ. وتتضمّن لائحة المنتجين أسماء 42 مصنعاًمسجلّين رسمياً، بينهم أصحاب العلامات التجارية التاريخية المعروفة، متوغّلين في الزمن متخطّين بداية القرن الماضي بسنوات ( منذ 1850 )، ومنهم من دخل إلى هذا النادي في السنوات العشر الماضية.ويعدّ أبرز رجال الأعمال في العالم اللبناني الأصل كارلوس غصن أحد المستثمرين الجدد.

ورغم حداثة الجيل الشاب في هذه الصناعة، فقد حجزوا لنبيذهم مكانة مرموقة بين العشّاقومتذوّقي الخمر ومحبّي السهر، فرضتها توظيفاتهم الكبيرة، وقدرتهم التسويقية، وجودة كرومهم، وميزة انتاجهم، واستعانتهم بمهندسين وخبراء ومتخصّصين ماهرين وكفؤين.

تصدير 3 ملايين زجاجة سنوياً

كسارة، كفريا، موزار، اكسير، كرم، فقرا... وغيرها وغيرها من أسماء النبيذ التي تردّد بشغف على كل شفة ولسان،حتى بات اسم لبنان مرتبطاً بها في الخارج.أثناء زيارة رسمية قام بها الوزير الراحل جورج افرام إلى العاصمة البريطانية عام 2002على رأس مجموعة من الصناعيين ضمّت 15 صاحب مؤسسة، أقام رئيس بلدية لندن اللورد كين ليفينغستون حفلاً رسمياً على شرف الوفد دعا إليه سفراء ومسؤولين حكوميّين وشخصيات اقتصادية. وبدّد اللورد الانكليزي تساؤلات الوفد حول سبب تقديم النبيذ اللبناني أثناء الحفل، نافياً أن يكون ذلك بالصدفة أو مسايرة للبنانيين، مؤكدّاً أنه يعتمد النبيذ اللبناني دائماً في السهرات والمناسباتالسياسية والاجتماعية التي تقام في دار البلدية.

يجمع المنتجون على عدم وجود تنافسية حادّة بين بعضهم البعض، معتبرين أنفسهم زملاء في مهنة واحدة، مستعدّين للتعاون في كل الظروف.

يستهلك السوق اللبناني 70% من انتاج النبيذ الوطني.وبلغ حجم التصدير في العام الماضي ( 2014 ) 33% من مجمل الانتاج أي ثلاثة ملايين زجاجة. ويصدّر النبيذ اللبناني إلى 30 بلداً في اوروبا الغربية والشمالية، والاميركيتين، واليابان، وروسيا، وبريطانيا، والصين... ومع ذلك يستورد لبنان مليون ونصف المليون زجاجة سنوياً، لا سيما من فرنسا وايطاليا. ولذلك قدّم وزير الصناعة الأسبق فريج صابونجيان في أحد لقاءاته مع أعضاء نقابة أصحاب الفنادق اقتراحاً بوجوب اعطاء الأفضلية للنبيذ اللبناني، وتشجيع روّاد المطاعم والمقاهي اللبنانيين والسيّاح الأجانب على السواء، على اختياره مشروباً أوّل.

التسويق الناجح

نجحت شركات النبيذ بتسويق انتاجها عبر ادراج الخمّارات في قائمة الجولات التي تنظّمهامكاتب السفرياتفي مختلف المناطق، وغدت محطّات ثابتة على غرار المواقع التاريخية والأثرية المعروفة في لبنان ( قلعة جبيل، بعلبك، صور، صيدا...). وأصبحت هذه الزيارات ضمن البرامج السياحيّة المنظّمة للبنانيّين والسيّاح، وتشمل مشاهدة فيلم وثائقي عن كلّ مؤسسة، وتاريخها، وطبيعة انتاجها... ومن ثمّ زيارة الدوالي، والمصنع حيث يتمّ التخمير، والأقبية حيث يتمّ التعتيق،انتهاء بالتذوّق المجاني Testing wine.ويصل عدد الزوّار في بعض الخمّارات إلى 50 ألف زائر سنوياً. تجدر الإشارة أيضاً إلى أن كلاً من الشركات الثلاث الكبرى من حيث الانتاج تخصّص موازنة سنوية للاعلان تبلغ مليون دولار تقريباً، وترتفع وتيرتها على شاشات التلفزيون وعلى اللوحات الاعلانية المنتشرة على الطرقاتفي عيدي الميلاد المجيد ورأس السنة.

كما أطلقت وزارة الزراعة بالتنسيق مع وزارة الخارجية والمغتربين، وبالتعاون معمصنّعي النبيذ عموماً، أيّاماً وطنية للنبيذ اللبناني في برلين وباريس ونيويورك بهدف التعريف بمزايا هذا المشروب والتسويق له.

مليون دولار توظيفات سنوية جديدة

يحكى كثيراً عن قطاع صناعة النبيذ اللبناني الواعد، وآفاقه المستقبلية، لا سيّما بعد اقدام عدد لا بأس به من المستثمرين الجدد على الانخراط في هذه الصناعة بملايين الدولارات. فيما قام روّاد هذه الصناعة بتوظيفات كبيرة أيضاً لمواكبة التحدّيات.ومنذ العام 1990 خصّصت أبرز المؤسسات العريقة مثلاً مليون دولار سنوياً للتجديد والتوسّع،ووصلت توظيفاتها إلى 25 مليون دولار طوال الـ 25 سنة الماضية. وأدخل الصناعيون القدامى والجدد التقنيات الحديثة، وبنوا الأقبية والخمّارات العصرية والمجهّزة بأفضل الآلات والمعدّات، واشتروا الأراضي الزراعية أو تعاقدوا مع المزارعين على شراء محاصيلهم وحدّثوا زراعة الكرمة.

واقع القطاع الاقتصادي

في كلّ مرّة يريد وزير أو مسؤول اقتصادي التغنّي بالنجاحات المحقّقة في الصناعة اللبنانية وفي التصدير إلى الخارج، يضع النبيذ في طليعة الأمثلة على ذلك. وتعطي هذه الصورة انطباعاً عن أن الحجم الاقتصادي كبير لهذا القطاع. فهل يتوافق حجم الانتاج اللبناني مع حجم التوقّعات الاقتصادية المرتقبة لقطاع واعد كما يقال؟ وكيف يقيّم انتاج 9 ملايين زجاجة نبيذ سنوياً  بحجم الأعمال Turnover مع سعر متوسطي للزجاجة يبلغ 8$؟

في مقارنة سريعة مع بعض البلدان المجاورة، تنتج جزيرة قبرص 30 مليون زجاجة سنوياً، وتونس 40 مليون زجاجة سنوياً، والكيان الاسرائيلي 50 مليون زجاجة سنوياً. وفي أكثر التوقّعات ايجابية، يطرح المنتجون اللبنانيون سقف الـ 15 مليون زجاجة بعد 10 سنوات، أي خلال العام 2025. فهل يعتبر أفق قطاع النبيذ مسدوداً ؟ أم ان هذه هي الطاقة الانتاجية القصوى نظراً لمساحة الأراضي الزراعية المحدودة في لبنان، وبسبب منع استيراد العنب من الخارج لحماية الانتاج الوطني؟

لا يشكّك الخبراء أمام "الاقتصاد" بنجاحات قطاع النبيذ الذي يفتخر اللبنانيون به،والذي حقّق شهرة سريعة ومشهودة له، بتمكّنه من منافسة ماركات النبيذ العالمية في فرنسا وايطاليا واليونان، وذلك أسوة بالابداعات التي لمع بها مصمّمو الأزياء والمجوهرات اللبنانيون العالميون الذين يلبسون ويزيّنون ملكات العالم وأميراته ونجمات السينما في هوليوود. ولكن ما استدعى هذه التساؤلات هو تقدير حجم الأعمال للمؤسسات الـ 42 المنتجة للنبيذ بحدود الـ60 إلى 70 مليون دولار أميركي سنوياً فقط لا غير. مع العلم أن الشركات الكبرى الثلاث ( من أصل الـ 42 المنتجة ) وهي كسارة ( 3 ملايين زجاجة ) وكفريا ( 2 مليون زجاجة ) وموزار ( 700 ألف زجاجة ) تسيطر على 60 إلى 65% من كميّات الانتاج.  ما يعني أن ما تبقى لكلّ الشركات الأخرى هو حجم أعمال متواضع ومحدود بـ 25 مليون $ تقريباً. وحتى لو لم يفصح المعنيّون بحقيقة حجم الأعمال، يعرب خبير مالي " للاقتصاد " عن اعتقاده بأن الرقم المذكور قريب من الواقع، طالما أن متوسط سعر الزجاجة في نقاط البيع الاستهلاكية والسوبرماركت يتراوح بين 6$ و 10$، هذا مع حسبان سعر الزجاجات المعتقة الني يرتفع سعرها الى 50 و100 $ولكنّها تشكل أقلية ضئيلة في مخزون الشركات.

ويجري الخبير مقارنة بسيطة بين الاستثمارات العقارية والقطاعات الانتاجية. فيقول: " إن سعر المتر المربّع في منطقة مميّزة في الأشرفية أو وسط بيروت أو الحمرا، قد يصل الى 10 الاف دولار أميركي وأكثر. أي أن سعر عقار واحد بمساحة 6 الاف متر مربع في إحدى هذه المناطق قد يصل الى 60 مليون دولار، أي ما يقارب قيمة حجم أعمال كامل قطاع صناعة النبيذ. واعتبر ان هذا التفاوت يشكل خللاً فادحاً في بنية الاقتصاد اللبناني، ناجماً عن عدم اعارة المسؤولين المقرّرين بالسياسات المرسومة طوال السوات الماضية أيّ أهمية للصناعة والزراعة. مع العلم أن هذين القطاعين هما أكثر من يؤمن فرص العمل لالاف العائلات. بينما ينتهي أي مشروع تطوير عقاري، مهما بلغت ضخامته وارتفاعه، خلال سنتين أو ثلاث على أبعد تقدير، ويكون عبارة عن بعض المحال التجارية والشقق السكنية، حيث لا مجال لاقامة مشاريع انتاجية، ولا حتى في مجال الصناعات النظيفة أو الخضراء أو صناعة المعرفة.

طرق العناية الحديثة بالكرمة

تنخفض كلفة العناية بالهكتار الواحد ( أي ما يوازي 10 دونم أي 10 الاف متر مربع ) المزروع بالكرمة إلى 3 الاف دولار سنوياًبعد مرور خمس إلى ست سنوات على زراعته. أما في البدايات فترتفع الكلفة إلى 9 الاف دولار.

وتشمل المصاريف كلفة الجرّارات الزراعية، والتجهيزات والمهندسين الزراعيين والفنّيّين والمزارعين. ولقد أدخلت أنواع جديدة من الدالية ذات المنشأ الفرنسي. وكان الآباء اليسوعيّون أول من غامروا باستيراد ما يعرف بالشتول النبيلةVignes Noblesفي العام 1870. وحققت هذه المغامرة نجاحاً تاماً، وأصبحت مع مرور السنين معمّمة في سهل البقاع، ثم امتداداً إلى سائر المناطق اللبنانية. كما تطوّرت الزراعة إلى تسنيد الكرمة ورفعها عن الأرض وربطها بالشريط المعدني، وذلك تسهيلاً لأعمال التشحيل ولمنع الرطوبة عنها المتأتية من التصاقها سابقاً في الأرض، ولتعريضها لأشعة الشمس من كافة الجهات. ويستخدم أصحاب الخمّارات البراميل المصنّعة من خشب السنديان والمستوردة من فرنسا لحفظ النبيذ وتعتيقه. وبعد التشحيل، تترك فضلات الخشب في مكانها، فتتحوّل إلى سماد عضوي يغذّي التربة. وفي شهر أيّار تلوّح العناقيد وتصبح جاهزة تمهيداً للقطاف والعصير والتخمير والتحويل إلى نبيذ. وتحت تأثير الخميرة، التي تضاف إلى عصير العنب، تتحوّل المواد السكرية إلى كحول. وبعد تعبئته في الزجاجات، يدخل النبيذ في سباته العميق في الأقبية، قبل عرضه في الأسواق.

تحتاج زجاجة النبيذ سعة 75 cl إلى كيلو واحد من العنب. فهل يعطي أكل العنب نفس المفعول الذي يعطيه تناول كأس نبيذ مع الأحبّاء؟