منذ عشر سنوات تقريباً، خفّ وهج الوسط التجاري لمدينة بيروت منذ اعادة اعماره لأسباب متعدّدة، غير مرتبطة كلياً بالأوضاع السياسية والأمنية، وإنما يعود بعضها لحصول نهضة اقتصادية عامة في مناطق ​لبنان​ية مجاورة وبعيدة نسبياً عن العاصمة، خفّفت من الاندفاعة نحو الـ"Downtown"، التي تحوّلت مع محلاتها الفاخرة مقصداً لأبناء طبقة دون سواها، بدل أن تحافظ على صورة بيروت وعلى طبيعتها المنفتحة التي كانت تعجّ بجميع اللبنانيين، على حدّ سواء ومن دون تمييز.

وفي العام 2009، أنشئت أسواق بيروت. وساد اعتقاد لدى غالبية اللبنانيّين والسيّاح أن هذه الأسواق أقيمت كمشروع رديف للـ"Downtown" بعد تحوّله ساحة كبيرة للاعتصامات المفتوحة التي شلّت الحركة الاقتصادية والخدماتية والمالية والتجارية والسياحية في وسط العاصمة.وشكلت الأسواق امتداداً فعلياً للوسط على مختلف الصعد. فاستعادت الحجر، من دون كلّ البشر.

في هذه الأثناء، تعزّزت الأسواق التجارية التقليدية مع تدشين الماركات اللبنانية والعالمية الذائعة الصيت والتي تناسب أسعارها أصحاب المداخيل المتوسطة والمحدودة، فروعاً لها في مار الياس، والحمرا، وفرن الشباك، وبرج حمود، وجونية، والكسليك...ومع انطلاقة الجمعية اللبنانية لتراخيص الامتياز وتوسّعها لتضمّ أكثر من 300 منتسب،وتسجيل الفرانشايز لا مركزية موسّعة ومميّزة أيضاً على صعيد المطاعم والمقاهي في هذه المناطق.

الا ان انحسار الوهج في الوسط، لا يعني بالضرورة تأثر الحركة سلباً في أسواق بيروت.ويختلف تكوين هذه الأسواق وهيكليتهاعن مفهوم التجمّعات التجارية المعروفة بالـ Mall . ولقد شرح مسؤول التسويق والعلاقات العامة في احدى المؤسسات المستثمرة في المشروع  " للاقتصاد " الفارق بينهما. وقال:" تشكل أسواق بيروت مرفقاً تجارياً حيوياً حديثاً يختلف ويتميز بتكوينه وعناصره عن مفهوم التجمعات التجارية المعاصرة التي تعرف بالـ "مول". فنحن هنا أمام منطقة تجارية بكاملها مع شوارعها التاريخية المخصّصة للمشاة. وتحوي هذه الأسواق على محال تجارية متنوعة النشاطات، ومكاتب، ومطاعم ومقاهٍ، بالإضافة إلى سوق الصاغة والساحات التاريخية أيضاً كساحة العجمي وبركة العنتبلي".

ازدهار الأسواق التقليدية علامة حيوية للاقتصاد

يعتبر الخبراء المعنيون أن ازدهار الأسواق التقليدية علامة حيوية في الاقتصاد. وكانت جمعية الفرانشايز أطلقت العام الماضي خلال منتدى "BIFEX" الذي تنظّمه سنوياً مبادرة " اعادة احياء الحياة الاقتصادية في الشوارع الرئيسية"، لأن صناعة البيع بالتجزئة تقوم بدور أساسي في الاقتصاد الوطني، وتشكل المبادرة حافزاً لمزيد من النمو والازدهار وجذب الاستثمارات الجديدة.  وسوف يتابع "BIFEX 2015" الذي سينعقد في 13 و14 ايار المقبل في فندق فينيسيا برعاية رئيس مجلس الوزراء تمام سلام وبمشاركة لبنانية ودولية متخصصة، معالجة قضية  الفرصة التسوّقية المتكاملة "Lifestyle shopping".

وشرح المدير العام للجمعية رجا الهبر "للاقتصاد" أهمية مساهمة "الشوارع الرئيسية، على المديين المتوسط والبعيد، في توفير نهضات اقتصادية محلية، تضخ الحياة والحركة ضمن مناطقها الجغرافية، وتؤدي مجتمعة الى نمو الاقتصاد الوطني ككل، وذلك في حال توفرت لها ولبلدياتها الحوافز والخدمات الضرورية لاعادة احياء الدور الاقتصادي والتنموي للشوارع الرئيسية لتكون القلب النابض للمجتمع المحلي ومساحة تواصل حضاري له."

وقال الهبر: " طالما تتوسّع ساحات العمل، طالما يجد أصحاب الفرانشايز فرصاً أكثر، لأن قطاع الفرانشايز يمثل لبنان الابداع والتطور، ويقدم نموذجاً اقتصادياً مميزاً يظهر صورة لبنان المتميزة في لبنان والعالم".

أسواق بيروت ليست مشروعاً رديفاُ

بالعودة إلى أسواق بيروت، فإنها ليست مشروعاً رديفاً أو بديلاً عن الوسط كما ساد لدى البعض، بل إنها تعتبر جزءاً من المخطط التوجيهي العام لوسط بيروت الذي تمّ وضعه منذ انشاء شركة سوليدير عام 1994. وبدأت أعمال التخطيط لهذا المشروع منذ عام 1998 . وبالتالي، تعتبر الأسواق مشروعاً محورياً في اعادة اعمار وتطوير وسط بيروت.

ويصحّح الخبراء المعنيون بالمشروع "للاقتصاد"، أن تسمية الـ "downtown" تطلق على منطقة الوسط بأكملها، بما فيها أسواق بيروت.

أنشئت أسواق بيروت إذاً عام 2009 . وتعمل شركة "سوليدير" على بناء مشروع المخازن الكبرى "department store"، ذات الهندسة المعمارية المرموقة من تصميم المهندسة زها حديد، ما سيجعل منها معلماً فريداً. وتتابع انجاز المراحل المتبقية في مجمّع السينما "Cinema city" الذي يشمل 14 صالة سينما مجهّزة بأحدث الأدوات التقنية، بالاضافة الى مجموعة من المطاعم. كما يتم انشاء مبنى متصل بالصالات مخصّص للترفيه، ومجهّز بأحدث الألعاب الالكترونية لكافة الأعمار.

كلفة الاستثمار ليست نهائية بعد. وإذا كان القيّمون على "سوليدير" يتحفّظون على كشف الأرقام لأن الأشغال والورش والمشاريع التطويرية والتوسّعية لا زالت متواصلة، قال استشاريّون ومهندسون وخبراء عقاريّون واسعو الخبرة "للاقتصاد"، "إنه من الصعب تحديد تكلفة مشروع مماثل بدقّة متناهية، بسبب تشعّب عملية التخمين فيها، وتضمّنها عناصر عديدة متأرجحة وغير ثابتة، تبدأ بكلفة المتر المربّع، ولا تنتهي بأعمال الديكور التي ينفّذها أصحاب المحال، والتي تصل إلى مئات الاف الدولارات أحياناً".

ستون ألف متر مربع هي المساحة الاجمالية المسطحة لأسواق بيروت، وتتضمّن ما يقارب 250 محلاً ومؤسسة  التجارية، هذا من دون احتساب المواقف والمكاتب، ومن دون احتساب تنفيذ الأسواق على مستويين مختلفين.

طبيعة الاستثمار هي الايجار، وبأسعار ترتبط بأهمّية الموقع، ولكنّها تتناسب مع مراكز تجارية مشابهة في بيروت، بحسب ما أفاد " الاقتصاد " أصحاب وكالات تجارية وعلامات تجارية وتراخيص امتياز (  Franchise )، لديهم فروع في الأسواق وفي مراكز تجارية مقفلة Malls .

حركة اقتصادية ناشطة ...تعزّزها نشاطات ثقافية وشعبوية

وفي أكثر من جولة استطلاعية، سجّلت " الاقتصاد " حركة جيّدة وناشطة في أسواق بيروت خلال هذه الفترة التي تتميّز بحلول عيد الفصح المبارك لدى الطوائف المسيحية. والتقت " الاقتصاد " سائحاً أردنياً أكد " أن هذا المؤشر الايجابي يعود إلى حالة الاستقرار النسبي الذي يمرّ به لبنان على الصعيدين السياسي والأمني، والذي يشجّع على التسوّق في بلد مضياف، ويحتضن أهم الماركات اللبنانية والعالمية ".

جهّزت الأسواق بمداخل جنوبية وشمالية لتسهيل الوصول اليها. وعند قطع الطرقات الجانبية والمحاذية لضرورات أمنية متعلقة بانعقاد المجلس النيابي، يضغط السير، ويحتجز الناس في سياراتهم، فتخفّ الحركة عموماً في كلّ الوسط التجاري.

تسمع العاملون في سوليدير يدافعون عن هذا المشروع الحديث الولادة. ويؤيّد العديد من أبناء بيروت ومن القاطنين فيها هذا الرأي، على اعتبار " أن الأسواق باتت تعتبر بعد 6 سنوات على افتتاحها، وبفترة زمنية قصيرة، واحدة من أهمّ المراكز التجارية في لبنان، بسبب تميّزها بهندستها المفتوحة ( open air ) وخصوصية أسماء شوارعها التاريخية، وترابطها وتداخلها مع الشوارع المجاورة. فهي تتضمن الأسواق المغطاة والمكشوفة، والتي حافظت على أسمائها المشهورة سابقاً كسوق الطويلة، وسوق الجميل، وسوق أياس، وسوق الأروام.

كما ينتقد عديدون آخرون المشروع " لأنهم أصبحوا غرباء في المدينة ". وقد يكون هذا الشعور وراء اقدام القيّمين على الأسواق على احياء النشاطات الثقافية والترفيهية بغية جذب المزيد من الزوّار. ولقد نجح كلّ من سوق الطيّب أسبوعياً، وسوق الزهور دورياً، في الاستقطاب الشعبي المسائي، إلى جانب المطاعم، وصالات السينما، والمعارض الفنية، والحفلات الموسيقية ( Performance street ).