لماذا تتسارع في هذه الفترة وتيرة الخطابات والمواقف السياسية المتعلقة بتبييض الأموال، وتنشط مراكز البحث والدراسات الغربية المتخصصة في العالم، في إصدار التقارير والدراسات  المتعلقة  بتبييض الأموال بالمواكبة مع وتيرة التطورات السياسة في العالم، وتتركز على المؤسسات التي تقع عملياتها وأعمالها الأضخم في منطقة الشرق الأوسط؟، والتي تصب في آخر المطاف في مستنقع قضيتين رئيسيتين الأولى: ما سمي بـ "ثورات الربيع العربي" والملف النووي الإيراني؟

المتابع لشؤون الشرق الأوسط منذ أحداث سبتمر 2001، سوف يتمكن بكل بساطة من ربط أي حدث اقتصادي ونتائجه ، بآخر سياسي ونتائجه، سيما اذا كانت المسألة تتعلق بالمخدرات أو تجارة الأسلحة وتبييض الأموال، خصوصاً إذا كانت تلك الأموال مصدرها شركات ومنظمات وجمعيات وأفراد عرب أومن الدول التي تستعديها دول الغرب او لا تقيم معها علاقات ندّية أو جيدة، مثل بعض دول أميركا اللاتينية وإيران وسوريا .

تبييض الأموال في الزمن الممنوع:

ويبدو جلياً الآن التركيز على الدول والشركات والمجموعات التي تنشط  وتتوسع في بيئة  تخدم بالنهاية مصالح المعسكر الإيراني، ولو بشكل غير مباشر، أو على الأقل تكشف بياناتها المالية وعملياتها، أنها عبرت فوق مصالح الغرب لتحط في وسط يخدم انتعاش اقتصادات دول الشرق الأوسط .

 أما من تصب أعمالهم  في صالح المعسكر السعودي – الأميركي، حتى ولوقاموا بتبييض الأموال عبر المخدرات وتجارة الأسلحة والدعارة في فترة ما قبل الأزمة المالية وكانت تجمعهم مصالح اقتصادية مع شركات غربية فكانوا يغضون الطرف عنهم حتى لو تحدثت تقارير متخصصة عنها، فهؤلاء لن تطالهم نتائج الدراسات، حتى ولو رأينا الأعمدة الشامخة التي نطحت المريخ في دبي، ولو شهدنا بناء أكبر جزيرة اصطناعية على شكل نخلة في دبي أيضاً ، أو بحيرات ومضائق وخلجان اصطناعية في مناطق مستحدثة في كل من السعودية وأبوظبي، وقطر فضلاً عن مشاريع رأس الخيمة

التي كانت تخطط بدورها لتحويل جبالها الصخرية الوعرة التي لا تصل الى طول برج سكني في دبي الى جبال ثلجية، عبر إخضاعها لحرارة خاصة كل شتاء، وهذا كله طبعاً كيف تم الإنفاق عليه؟ سوى عبر أساطيل من المال العالمي الذي قدم للتبييض، والذي لا يمكن له أن يدخل في قنوات المصارف العالمية إلا عبر وضعه أولاً في "شنط" و"جعب" و"أكياس" سوداء، ليدخل عبر القطاع العقاري، او المضاربات بأسواق الأسهم، أو الاكتتابات بالصكوك أو بسندات دين الخزينة المتاحة في المنطقة وعن طريق المصارف المتاحة.

ولعل اتهام بنك"HSBC" البريطاني المنشأ، بتورطه بعمليات تبييض الأموال في الأمس يأتي ضمن هذا الإطار، إذ صدر تقريرعن مجلس الشيوخ الأميركي يتهمه بالقيام بذلك وبعمليات مشبوهة لصالح شركات عرّف عنها التقرير بأنها "من أخطر الأماكن وأكثرها غموضاَ في العالم مثل المكسيك وإيران، وجزر كايمان وسوريا وشركة الراجحي السعودية".

والسؤال الذي يُسأل هنا، هل هي بداية نهاية هذا الكارتيل العملاق الضخم الذي عَبَر القارات والسياسة والمفاهيم الوطنية في بلده المنشأ؟ وهل يتضح لنا أن المملكة المتحدة رفعت الغطاء عن هذا "الإبن العاق"، الذي تجاوز جميع أصول  و"كلاسيكيات" بريطانيا في اللعب بالمال وأدواته؟، بحيث بات يلعب في أسواق المنطقة العربية لصالح مساهميه والمدراء التنفيذيين فيه ممن لا يحتسبون للمشاعر القومية أو اعتبارات السياسة التي تدور رحاها اليوم بين معسكرين رئيسيين لا ثالث بينهما؟

عمليات البنك في الشرق الأوسط:

وقد يتأكد لنا ذلك عندما نعلم أن عمليات هذا البنك  العملاق تعظم  في منطقة الشرق الأوسط ، إذ تنطلق عملياته من إمارة دبي ، كما لعب دوراً بارزاً  في مجال التعامل الاسلامي "الشريعة" ، خصوصاً من خلال فرع "أمانةHSBC" السعودي، ومن خلال امتلاكه حوالي 40% من أسهم البنك السعودي البريطاني "ساب"، وهو يعد  الأكثر تمثيلاً  في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذ يتواجد في 14 دولة بالمنطقة مثل: مصر، قطر، سلطنة عمان، البحرين، الكويت، الأردن، لبنان، العراق، والجزائر ومنطقة الحكم الذاتي الفلسطيني بالإضافة الى الباكستان، ومكتب تمثيل في ليبيا.

وقام البنك منذ فترة بالاندماج ما بين فرعه في سلطنة عمان مع بنك عمان الدولي، ليصبح  بذلك مالكا لـ51% من الحصص في البنك المدمج والذي تبلغ قيمة أصوله نحو2.5 مليثار دولار، فيما تم إعادة تسميته بـHSBC"عُمان ش.م.ع.ع".

كما كان البنك قد استحوذ في العام الماضي على  أصول الخدمات المصرفية التجارية والخدمات المصرفية للأفراد التابعة لمجموعة «لويدز» المصرفية في الإمارات ، والتي تبلغ قيمتها نحو 769 مليون دولار أميركي.ومؤخراً قام بإصدار صكوك مقومة بالين الصيني، لسند "بنك الامارات دبي الوطني"، وبلغت قيمتها حوالي 158 مليون دولار، قيل انها لأول مرة لصالح دولة  "شرق أوسطية دون الكشف عن هويتها ، ما يترك المجال للتكهن بأن هذه الدولة قد تكون ايران.

ومنذ نحو شهرين أعلن "HSBC" عن نيته إنهاء خدمات نحو 2000 موظف في بلده الأم بريطانيا وذلك في خطة لإعادة هيكلة أعماله في هذا البلد الذي تتآكله الأزمة المالية ولتخريج مئات آلاف الجنيهات الاسترلينية من قائمة الرواتب والمخصصات سنوياً.

دبي والحضن الايراني:

ولعل كل هذا يجعلنا نتوقف حول  توجه هذا البنك الأوروبي الأول  الذي يركز على الأعمال  وخطته للاستفادة من الحوافز المتوفرة في منطقة الشرق الأوسط ، من خلال لعب دور أسهم  في إعادة بث الحياة للمنطقة التي تضررت من تداعيات أزمة الائتمان العالمية، التي بدأت تظهر معالمها في المنطقة عام 2008 ، ومنها إمارة دبي وفي هذه الفترة بالذات، بعد أن بدأنا نستشف أنها تغمزمن طرف أميركا وحلفائها بين الفترة والأخرى، ما لا يترك شكاً بأن هذه الإمارة باتت تميل الى الحضن الإيراني بعد انسحاب الأموال الغربية من اسواقها، وهنا نتساءل: لماذا ظهر هذا التقرير الآن الى العلن وبدأت التحقيقات،  علماً ان هناك تقارير سابقة لفتت الى احتمال تورط البنك  بعمليات مشابهة ومنذ نحو عشر سنوات الفترة الذهبية لمنطقة الخليج والازدهار العقاري والمالي، ما يعني الفترة التي كانت تزدهر فيها أعمال المستثمرين الغربيين من أصحاب ومديري صناديق استثمار ومحافظ أميركية وبريطانية وغيرها، سواء عبر المضاربات العقارية أو بأسواق الأسهم، ولم  يعِرحينها مجلس الشيوخ أذاناً صياغة لتلك التقارير؟!.

 أما وبعد أن انسحبت تلك الأموال الغربية، وانهار هذان القطاعان اللذان كانت تعتمد عليهما الإمارة، وتركت تترنح تحت عبء ديون تفوق الـ 170 مليار دولار، وبعدما أعلنت الإمارة علانية عبر رجلها الثاني قائد شرطتها "ضاحي خلفان" ان "أميركا ليس لها صديق" ، وسط  تقارير تشير الى أن نحو 60% من سكان دبي هم من أصول إيرانية ومعظمهم مستثمرون ورجال أعمال، فالأمور اختلفت، إذ بات جلياً أن ساعة الحساب باتت تدق .

التقرير الأميركي والأبعاد الخفية:

ويقول السيناتور "كارل لفين" رئيس لجنة التحقيقات الدائمة في مجلس الشيوخ الأميركي "أن ثقافة أتش أس بي سي " تلوثت على نطاق واسع ولفترة طويلة"، مشيراً الى أن مشكلات هذا البنك ظهرت للملأ منذ نحو عشر سنوات إلا أن التحقيق الذي أجراه مجلس الشيوخ كشف تفاصيل أدق عن هذه المشكلات لدى البنك ولدى مكتب مراقبة العملة _ هيئة رقابية أميركية_ اعتبر التقرير ان هذه الهيئة لم تراقب هذا البنك كما ينبغي"!.

وأشار التقرير الى عمليات للبنك اعتبرها تنطوي على غموض وقد تؤكد تورطه في عمليات تبييض أموال ، حيث أظهر انه بين عامي 2007 و 2008 أن البنك قام بتعاملات سرية مع ايران، دون ان يظهر ذلك في وثائق البنك، وتضمن ذلك 25 الف عملية مالية، كما حول في نفس الفترة فرع البنك في المكسيك سبعة مليارات دولار إلى عملياته الأمريكية، وبحسب تقرير مجلس الشيوخ فإن السلطات المكسيكية والأمريكية حذرت"HSBC"من أن هذه الأموال لا يمكن ان تبلغ هذا المستوى إلا إذا ارتبطت بتجارة المخدرات.

وكان بنك اتش اس بي سي  في الإمارات قد سجل  نمواً في أرباحه العام  الماضي بنسبة وصلت إلى 78% ، إذ ارتفعت الى 575 مليون دولار  مقابل 324 مليون دولارعام 2010.

ووصلت أرباح البنك قبل الضرائب عن أنشطته في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في العام الماضي حوالي 1,49 مليار دولار مقابل 892 مليون دولار في عام 2010، مسجلاً بذلك أعلى أرباح بين البنوك الأوروبية العام الماضي بفضل قوة أنشطته في آسيا وسائر الأسواق. كما كشف هذا البنك أنه حقق أرباحا قدرها 9 .21 مليار دولار في 2011 بزيادة 15 في المئة عن العام السابق.

أصدارات الصكوك المثيرة للشكوك:

ونشط البنك في الفترة الأخيرة في عملية اصدار الصكوك  وسندات الدين إذ يعتبرها البنك جزءاً هاماً من التركيبة الاقتصادية للمنطقة، خصوصاً في ظل هذه الأزمة التي تفتقر الى السيولة في الأسواق.

وتعتبر إصدارات الصكوك وسندات الدين من أكثر الأدوات التي  تفتح شهية الجهات التي تسعى الى تبييض أموالها، إذ لا يمكن لشركات الرقابة والتحقيق المختصة ان تتحقق منها سوى في حالات يفرضها القضاء والتحقيقات الرسمية.

وكان "سامون كوبر" كبير المسؤولين في هذا البنك  في دبي قد صرح لصحيفة الشرق الأوسط في أيار الماضي ان "سوق الصكوك تزداد قوة يوماً بعد يوم في منطقتي الشرق الأوسط وأفريقيا". وتوقع أن تسجل هذه السوق ارقاماً قياسية جديدة هذا العام لتصل حصة اسواق المنطقة حوالي 32% من قيمة الاصدارات العالمية أي ما يعادل حوالي 14 مليار دولار.

ورأى"كوبر"  أن الدافع الرئيسي لهذا الأداء القوي لإصدارات الصكوك يتمثل في وجود سيولة كبيرة تبحث عن أدوات استثمارية إسلامية مناسبة، وأضاف للصحيفة نفسها: "فإذا وضعتم هذه الحقيقة في إطار المحدودية التاريخية لحجم تلك الإصدارات وأزمة ديون منطقة اليورو لعرفتم سبب تفاؤلنا.

هذا وتستمر التحقيقات التي أسفرت عن استقالة رئيس قسم الرقابة في “HSBC”"ديفيد باجلي"أمس أمام لجنة فرعية بمجلس الشيوخ الأمريكي.

هذا ويتوقع خبراء ان تستمر التحقيقات التي لن يغيب عن أجوائها الطابع السياسي، علماً أن ذلك قد يطال الكثير من الرؤوس الكبرى، مما قد يؤدي الى أحد قرارين : إما عودة "الإبن العاق" الى جذوره الأوروبية وتقليص أعماله ، وهذا مستبعد اذ ان الرأسمال دوماً تحكمه المصالح وليس الروابط القومية او العرقية، أو انهيار هذا العملاق تحت وطأة هذه التحقيقات وإن لم يكن على المدى المنظور ، حيث من المتوقع أن يشهد في الفترة المقبلة الكثير من السحوبات من عملائه والمستثمرين في أدواته، إلا اذا تغير المسار السياسي وقاعدة التوازنات في العالم، وهذا من المستبعد في الفترة القليلة المقبلة.