هذه الإمارة التي شغلت العالم بنموها الصاروخي، وانتزعت لقب الإمارة الثرية لأكثر من عقد، ووصل صيتها الى كافة أصقاع الأرض، وتحدّت معظم المقاييس المحققة في "غينيس" لجهة أعلى برج، وأول جزيرة اصطناعية، وأطول خليج  اصطناعي، وأكبر مركز تجاري في العالم، وأغلى فندق في العالم، الى غيرها من الكثير من المقاييس التي خرقتها.. ها هي الآن تواجه قدراً جديداً وأصبحت بين ليلة وضحاها، إمارة مكبلة بديون تتراوح قيمتها ما بين 130 و170 ملياردولار، بحسب آخر تقرير صدر الأسبوع الماضي عن بنك "اي اف جي هيرمس" الاقليمي.

حجم الديون والاستحقاق

ومن المفترض أن تقوم دبي بتسديد  دين تقدر قيمته بنحو 14 مليار دولار هذا العام لبنوك وشركات عالمية ، كدفعة مستحقة من قيمة ديون تراكمت عليها منذ ما قبل أزمة الائتمان العالمية، كان لهذه الإمارة حصة الأسد من نتائجها الوخيمة، بفعل ازدهار قطاعي المال والعقارات فيها، اللذان تهاوا مباشرة بعيد هذه الأزمة.

وفي حين أشار التقرير نفسه الى ان هذا الهامش مابين 130 مليار دولار و170 ملياردولار يعود لعدم شفافية التقارير الصادرة عن "دبي أنك" وهو المصطلح الذي أطلق على دبي كحكومة وكشركات تابعة لها،

ذكر أن ديون مجموعة دبي العالمية التابعة لحكومة دبي وحدها تقدر بحوالي 45.4 مليار دولار بينما يقدرإجمالي ديون حكومة دبي وشركاتها بحوالي 100 مليار دولار، هذا بدون ذكر الديون الثنائية والتي قامت بها بعض الشركات من خلال بعض البنوك المحلية .

مراحل الأزمة

وتواجه دبي أزمة مالية واقتصادية منذ اندلاع أزمة الائتمان العالمية ، خصوصاً وأن هذه الإمارة ليست نفطية واقتصادها هش، فهي لا تعتمد على قطاعات انتاجية، إنما على السياحة وقطاعات ذات صلة بقطاعي العقارات والانشاءات، وبمجرد أن تعرض هذان القطاعان للانهيار ، تأثرت القطاعات الأخرى المتصلة مثل صناعة الزجاج، والألمنيوم، والسيراميك ومواد البناء المختلفة، ناهيك عن القطاعات الخدمية واللوجستية والتجارة وإعادة التصدير التي تعتمد على ازدهار القطاع التجاري الذي تأثر هو بدوره بشكل ملحوظ كأحد تداعيات الكساد الاقتصادي.

وتأثرت هذه الإمارة الشهيرة القليلة بتعداد سكانها من المواطنين (300 الف) فيما كان يقطنها حوالي مليونين ونصف نسمة من مختلف الجنسيات الأخرى، تأثرت بتداعيات الأزمة العالمية التي ضربت الأسواق المالية المختلفة في العالم ، وتلقت سوق دبي المالي حصة منها وذلك بسبب ارتباط هذا السوق بالأسواق المالية العالمية، وبسبب غياب الشفافية والافصاح وعدم توفر قوانين تحد من تدفق وانسحاب الأموال الساخنة(Hote Money) بمدة قصيرة، ولعل هذه اول صفعة تلقتها دبي وانعكست ككرة الثلج على باقي الدورة الاقتصادية، ففي شهر أب عام 2008 وحده مثلاً شهدت هذه الإمارة انسحابات مالية بقيمة قدرها خبراء بحوالي 80 مليار درهم من الاسواق والبنوك، كانت هذه الأموال تعود لمحافظ وشركات أجنبية قدمت خلال شهور، قيل ان معظمها انسحب لتغطية خسائر ومواقع تعرضوا لها بسبب أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة الأميركية، التي بدأت تباشيرها مع نهاية عام 2007.

واستمرت ال​سحوبات​، لتحدث انكماشاً في الاسواق، وتتسبب بأزمة سيولة، كان السوق العقاري ثاني المتضررين منها ، فدبي التي استقطبت مئات الشركات العالمية عبر برامجها الاعلانية  التي أشرف على وضعها  وتنفيذها كبرى شركات العلاقات العامة والمستشارين الأجانب، في مختلف الوسائل الاعلامية في العالم، والتي أدت الى  استقطاب كبرى العلامات التجارية وشركات البناء والتطوير من مختلف انحاء العالم، وعبرتشجيعها لمباريات ولمسابقات ولمهرجانات مختلفة للحصول على  ألقاب مهمة  وبارزة في العالم، في سبيل أن يتم وضعها على خارطة السياحة والاقتصاد والمال  والذهب والسلع العالمية، عبر إنفاق ميزانيات ضخمة، وقد نجحت فعلا لوهلة في تأكيد وجودها كواحة مال واستثمار  في منطقة الخليج العربي، تتسابق لنيل رضا الاستثمار بها أو حتى لفتح مكاتب فيها، كبرى الشركات والمتعددة الجنسيات والقابضة والمتوسطة والمحافظ والصناديق الاستثمارية الكبرى، وغيرها من الشركات التي تقدم الخدمات المختلفة في الكثير من القطاعات.

ورغم تدخل ​البنك المركزي​ مراراً عبر تعويم البنوك المحلية لكي تواصل دورها في تقديم خدمات التمويل ، غير ان ذلك لم يكن كافياً إذ امتصت الاسواق السيولة بسرعة البرق هذه الأموال، كما تكشفت مشكلات أخرى في ما بعد، وهي ان الكثير من الشركات العقارية التابعة لحكومة دبي عندما وقعت الواقعة لم تكن قد استكملت مشاريعها التطويرية بعد، وبالتالي تحتاج لدفعات مالية لكي تستكمل ويتم تسليمها لأصحابها،  وبالتالي تتمكن هذه الإمارة من استرداد باقي أموالها المعلقة على حسابات التقسيط.

إنفجار الفقاعة

وقد برز هذا جلياً في مشاريع شركة "نخيل"  التي كانت تبني ثلاث جزر نخيل اصطناعية، كانت قد استكملت واحدة منها عندما بدأت الأزمة، وهي تابعة لمجموعة "دبي العالمية" المملوكة من حكومة دبي، كما ظهر حجم الأزمة في شركة "إعمار" الحكومية والتي تملك عشرات المشاريع العملاقة في الإمارة، فضلاً عن عشراتالمشاريع الأخرى التي تعود ملكيتها لشركات قطاع خاص استثمرت بدورها ضمن مشاريع الحكومة.

كان كل ذلك كفيلاً ليحدث  انفجاراُ رهيباً في الفقاعة العقارية والتي تناثرمفعولها شظايا في كل الاتجاهات انعكست على قطاعي الانشاءات والمقاولات بداية ، ثم مواد البناء ، ما انعكس على سوق العقل وتسبب بإنهاء خدمات عشرات الآلاف من العمال والموظفين والذي بدأ مع نهاية عام 2008 وحتى كتابة هذا التقرير، وبين شهر وآخر كانت الضحايا والأثار تتزايد لتنعكس على باقي القطاعات التجارية والاستهلاكية والسكن  والنقل والى كل حلقة من حلقات السلسلة الاقتصادية.

في خريف عام 2008 أعلن محمد العبار رئيس شركة "اعمار" العقارية والمساعد الرئيسي للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم الإمارة ورئيس حكومة أبوظبي، أن ديون الإمارة لا تتخطَ الـ 80 مليار دولار في حين لدى الإمارة أصول تتجاوز الـ 90 مليار دولار، كان هذا التصريح التاريخي بمثابة اعلان أول خطوة نحو إشهار الإفلاس في ظل طلب الكثير من المستثمرين لأموالهم ولوحداتهم العقارية او لاستحقاقاتهم، قال حينها متابعون ان تلك الأصول ليست أكثر من مبانٍ وشقق ومكاتب  وفلل، كيف يمكن تقييم تلك الاصول بـ 90 مليار دولار، فيما القطاع العقاري اصلاً أسعاره خاضعة للعرض والطلب سيما وأن تقييمه لحجم تلك الأصول بحسب التسعيرة القديمة لما قبل الأزمة.؟

أما "دبي العالمية" وهي الذراع العقاري الاستثماري الأطول في حكومة دبي والتي تعتبر من أكبر المجموعات الحكومية التي أرهقت الحكومة بمديونياتها، فقد ظلت الأسرار حول وضعها المالي تحوم حتى تشرين الثاني من عام 2009، حين فاجأت مستثمريها والأوساط المالية العالمية، عن عجزها  تسديد التزاماتها المالية لسداد الصكوك المستحقة في ذلك الشهر، ما أعطى صورة أشبه بأن تكون إعلان إفلاس لشركات دبي،  الى أن جاءها السعد من إمارة أبو ظبي الثرية بالنفط والتي قامت بمدها بحوالي 15 مليار دولار والذي تم عم إنشاء صندوق للدعم، ومع ذلك لم تتمكن هذه المليارات من حل الأزمة ، فرغم أن "دبي العالمية" تمكنت في عام 2011 من سداد نحو 4,2 مليار دولار من إجمالي استحقاقاتها، إلا أن العقدة الأكبر تكمن في استحقاقات الشركات العالمية على "دبي العالمية" في مشاريعها التي انغمست بها في الخارج.

ففي تشرين الأول من عام 2011 قام صندوق أمريكي للتحوّط بمقاضاة "شركة الأحواض الجافة العالمية" التابعة لـ "دبي العالمية"، لسداد حوالي 45.5 مليون دولار أمريكي. وقد أصدِرت هذه الدعوى القضائية عندما تخلفت وحدة إصلاح السفن التابعة لمجموعة دبي العالمية عن دفع الديون في تموزمن العام نفسه، وهذا مجرد مثال لحجم المشاكل القضائية التي يمكن أن تثير أزمة ديون أخرى في الإمارة.

ويعتقد خبراء أن ما هذا إلا البداية فيما يتعلق ب​ديون دبي​، فهناك 14 مليار منها يستحق دفعه في هذا العام، فيما تتجه الأنظارالى التقارير التي تثبت أن وضعية دبي المالية لا يمكن لها أن تقوم بتسديد هذ المبلغ الذي تبلغ نسبته نحو 81.7% من الناتج المحلي الإجمالي، متفوقة بذلك على كل من روسيا 73% والولايات المتحدة الأميركية وكوريا الجنوبية.

إذن وسط كل ذلك ما هي الحلول التي يمكن أن تلجأ اليها حكومة دبي؟

اقتراحات الحلول

فيماأشار صندوق النقد الدولي  في تقرير خاص بدبي هذا العام، أن إعادة هيكلة ديون هذه الإمارة تعد تحدياً كبيراً أمام اقتصاد دول الإمارات، والحل الوحيد هو أن تقوم الإمارة بعملية بيع أصولها ولو كانت النتيجة المرجوة لا يمكن ان تتم على المدى القريب،  إلا أن الخبير الاقتصادي والمحلل أحمد البنا استبعد أن تقوم إمارة دبي بهذا الإجراء كأن تسيّل البعض من أصولها ، فقد يكون لديها وسائل أجدى عبر الاعتماد على المصارف المحلية وبعض المصارف الصديقة لإعادة تمويل بعض السندات المستحقة الدفع بقيمة اربعة مليارات دولار، وهو الجزء الأكثر حساسية من الناحية القانونية من إجمالي الديون.

وكان رئيس اللجنة العليا للسياسة المالية في دبي الشيخ أحمد بن سعيد آل مكتوم (الأخ  غير الشقيق للشيخ محمد بن راشد) قد أكد في وقت سابق من هذا العام عدم إجراء إعادة هيكلة سندات تُستحق في الفترة المقبلة لدى الشركات المرتبطة بحكومة الإمارة، لكن الحكومة قد تدرس إعادة تمويل جزء من الديون يحتمل أن تكون عبر إصدار سندات دين جديدة.

وكانت شركات التصنيف الائتماني في دبي قد أعلنت أن دبي تواجه مخاظر ضخمة تتعلق بسمعتها وبمقدرتها على الإيفاء بالتزاماتها المالية بموعدها ، مشيرة الى ان الإمارة ليس أمامها سوى ان تقوم بإعادة هيكلة منظمة لالتزاماتها وخصوصاً لـ "دبي العالمية"، وقامت بتصنيف ​اقتصاد دبي​ بالخطر جداً بالأضافة لتصنيفات متدنية ومتراجعة لبضعة بنوك محلية وشركات عقارية فيها.