لقد بات من المعروف أنّ الحقبة الملقّبة بـ "​الربيع العربي​" تمثّل إحدى الإنقلابات الأكثر حدّةً في تاريخ العالم العربي منذ عدّة عقود، فقد كانت معظم الدول المعنيّة محكومة خلال عشرات السنين من قِبَل أنظمة غير ديمقراطيّة كانت تنتهك الحرّيات الفرديّة والسياسيّة والإقتصاديّة لشعوبها وتحتكر موارد بلادها. وقد أثارت تلك العوامل شرارة ثورات الربيع العربي التي بدأت مع الإنتفاضة الشعبيّة الإجتماعيّة في تونس، قبل أن تنتقل العدوى إلى العديد من دول المنطقة كمصر واليمن وليبيا وسوريا. ونجحت تلك الإنتفاضات في بعض البلدان إلى إسقاط دكتاتوريّاتٍ كانت في الحكم منذ عقود، الأمر الذي كلّفها خسائر إقتصاديّةٍ كبيرة قمنا من خلال تقريرنا هذا بتقييمها. في هذا الإطار، ومن خلال البحث الذي أعدّته وحدة الأبحاث الإقتصاديّة في بنك الإعتماد اللبناني، تمّ تقدير الخسائر الإقتصاديّة التي تكبّدتها الدول المذكورة آنفاً ب9.23 ملياردولار أميركي في تونس و1.15 مليار دولار أميركي في اليمن و62.26 مليار دولار أميركي، في ليبيا و19.3 مليار دولار أميركي في سوريا. غير أنّ الكلفة الإقتصاديّة للثورة في مصر لم تبدو كبيرة، الأمر الذي لم يخولّنا جزم ما إذا كانت تلك الخسائر تعود إلى تداعيات الربيع العربي أو إلى الدورة الإقتصاديّة "economic cycle".

على صعيدٍ محلّيٍّ، لم يتأثّر لبنان بشكلٍ مباشر بأحداث الربيع العربي، غير أنّه قد بات من المستحيل تجنّب إنتقال التوتّرات السياسيّة والأمنيّة القائمة حاليّاً في سوريا إلى البلاد، وذلك بحكم القرب الجغرافي بين البلدين. وقد تبيّن أنّ القطاع السياحي في لبنان هو أحد القطاعات الأكثر تأثّراً بالتشنّجات الإقليميّة، والتي تبعتها فيما بعد توتّراتٌ سياسيّةٌ وأمنيّةٌ على الساحة المحليّة. كذلك لم ينجُ القطاع العقاري اللبناني من تداعيات الإضطرابات في المنطقة، الأمر الذي ترجم من خلال التراجع الكبير في عدد وقيمة المعاملات العقاريّة التي تمّ تسجيلها في الفترة الممتدّة بين العام 2011 والعام 2013. نتيجةً لذلك، شهد الإقتصاد اللبناني تباطؤاً ملموساً في ظلّ إعتماده بشكلٍ أساسيٍّ (أكثر من 60%) على قطاع الخدمات، ممّا دفع بالمؤسّسات الدوليّة إلى مراجعة توقّعاتها لوتيرة النموّ للأعوام القادمة. 

في هذا الإطار، تمّ تقدير الخسائر الإقتصاديّة الناجمة عن أحداث الربيع العربي على الناتج المحلّي الإجمالي للبنان من خلال نموذجٍ علميٍّ تمّ إعداده من قبل وحدة الأبحاث الإقتصاديّة في بنك الإعتماد اللبناني بهدف قياس نسبة التدنّي في الناتج المحلّي الإجمالي منذ اندلاع أحداث الربيع العربي. وبحسب هذا النموذج، تبيّن لنا أنّ حالة عدم الإستقرار السياسي والأمني السائدة في المنطقة وعلى الساحة الداخليّة قد نجم عنها تراجع بنسبة 3.3% في السنة في النموّ الإقتصادي الحقيقي منذ العام 2011.

كما تبيّن الدراسة أنّ الكلفة الإقتصاديّة للربيع العربي لجهة الناتج المحلّي الإجمالي في لبنان قد جاورت عتبة الـ 6.03 مليار دولار أميركي خلال الفترة الممتدّة بين العام 2011 و2013، أي ما يشكّل حوالي 20.21% من الناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي للعام 2013.