لم تحمل مبادرة حاكم ​مصرف لبنان​ ​رياض سلامة​ الهادفة للإفراج عن الودائع، الوقع الذي تمنّاه، بل قابلتها الشكوك بإمكانية تنفيذ ونجاح هذه الخطة، التي وعد سلامة من خلالها أنه سيبدأ بعد نحو شهر من اليوم، بدفع 50 ألف دولار لكلّ مودع، على أن يكون هذا المبلغ مقسّطاً ومقسّماً إلى قسمين: الأوّل 25 ألف دولار نقداً (فريش دولار)، فيما الثاني هو 25 ألف دولار ب​الليرة اللبنانية​.

أحاطت بهذه المبادرة الكثير من الأسئلة، إن كانت هذه الأموال المقرر دفعها من موازنات ​المصارف​؟ وهل تأتي هذه المبادرة على سبيل المقايضة: رفع الدعم مقابل تحرير الودائع تدريجياً؟ ولأي مدى ستساهم الخطوة في حال نُفِذَّت، في تهدئة انهيار الليرة؟ وما هي الخيارات المتاحة مستقبلاً؟

كبير الاقتصاديين ورئيس قسم الأبحاث لدى "​بنك عودة​" ​مروان بركات​، أجاب عن هذه الأسئلة، في مقابلة مع "الاقتصاد":

يفاوض رياض سلامة حالياً ​المصارف اللبنانية​ بهدف اعتماد ​آلية​ تبدأ بموجبها تسديد تدريجي للودائع. هذه الأموال المقرر دفعها، هل ستكون من موازنات المصارف؟

إن مبادرة السلطات النقدية تقتضي من حيث المبدأ دفع زهاء 50 ألف دولار للمودعين منها 25 ألف دولار تدفع ب​الدولار​ و25 ألف دولار تدفع بالليرة اللبنانية. وفي حين أن مصرف لبنان لم يصدر بعد الآلية التي ستدفع على أساسها هذه المبالغ النقدية، إلا أن الترجيحات تتمحور حول تأمين مصرف لبنان مجمل الدُفعات بالليرة اللبنانية، في حين أن الدفعات بالدولار قد تدفع مناصفة بين المصارف ومصرف لبنان.

الجدير ذكره، أنه من جراء هذه الخطوة، فإن ما يقارب مليون و45 ألف مودع قد تسدّد إيداعاتهم بالكامل، ما يشكل زهاء 77% من المودعين بالعملات. هذه المبادرة جيدة بالمبدأ، وتستأهل الترحيب، علماً أن التحدي الأبرز هو في تأمين ​السيولة​ الكافية بالعملات الأجنبية لتغطية مجمل الدفعات بالدولار في المدى المنظور. أما التحدي الآخر، فيعود إلى الآثار التضخمية لخلق النقد بالليرة اللبنانية، جراء دفع الجزء من الأموال بالعملة الوطنية.

ماذا وراء المبادرة؟ وهل تأتي على سبيل المقايضة: رفع الدعم مقابل تحرير الودائع تدريجياً؟

ليس هناك ربط مباشر بين هذه المبادرة ورفع الدعم. إن ترشيد الدعم المستهدف حالياً تقابله البطاقة التمويلية المقترحة، والتي من شأنها تغطية 750 ألف عائلة بمتوسط قدره 137 دولار في الشهر للعائلة الواحدة (بكلفة سنوية قدرها مليار و200 مليون دولار) وفق مشروع القانون الذي أُحيل اليوم إلى ​مجلس النواب​. الهدف من ترشيد الدعم هو خفض فاتورة الدعم السنوية من 5 مليارات دولار حالياً، إلى زهاء 2 مليار دولار تغطي كلفة البطاقة التمويلية والدعم المرشّد، وذلك لتأمين ديمومة احتياطيات مصرف لبنان.

وللإشارة هنا، أن الاحتياطيات السائلة بالعملات الأجنبية المتوفرة حالياً في مصرف لبنان تناهز 16 مليار دولار، ما يوازي تقريباً الاحتياطي الإلزامي للمصارف في مصرف لبنان.

لأي مدى ستساهم الخطوة في حال نُفِذَّت، في تهدئة انهيار الليرة والارتفاع في أسعار صرف الدولار في السوق؟

إن هذه الخطوة تساهم بشكل نسبيّ بتعزيز الدولار النقدي المتوافر لدى اللبنانيين، وبالتالي قد تساهم في عرض الدولار في ​السوق السوداء​. إلا أن آفاق سعر صرف الليرة على المدى المتوسط والطويل تبقى مرتبطة بالآفاق السياسية المحلية العامة والإدارة الاقتصادية للأزمة المالية/النقدية، والقدرة على احتواء العجزين المزدوجين في المالية العامة والحسابات الخارجية.

إن التحدي الأبرز في هذا السياق يرتبط بتعزيز الاحتياطيات السائلة لمصرف لبنان، بالمقارنة مع القاعدة النقدية.

لهذا السبيل، لبنان بحاجة أولاً وقبل كل شيء، إلى الحصول على ​المساعدات​ الخارجية والمرتبطة بدايةً بتشكيل حكومة ذات صدقية، تحصل على ثقة المجتمع المحلّي والدّولي، تتبنّى استراتيجية اقتصادية واضحة للخروج من الأزمة، وتنكبّ على الإصلاحات البنيوية والمالية المنشودة، ما يعبّد الطريق أمام اتفاق مع "​صندوق النقد الدولي​" وانعقاد مؤتمرات دولية داعمة للبنان.

يجدر الذكر، أن التدهور في سعر الصرف هذه السنة، مرتبط بشكل أساسي بالضبابية السياسية المحلية، خصوصاً في ظلّ التجاذبات الداخلية المرتبطة بتشكيل الحكومة. فعندما يتعثّر التشكيل يرتفع ​سعر صرف الدولار​ في السوق السوداء، وعندما تتعزّز آمال التشكيل ينخفض سعر صرف الدولار.

أمّا بالنسبة للعوامل البنيوية التي أدّت منذ سنة ونيّف إلى تدهور الليرة اللبنانية، فهي مرتبطة بشكل خاص بانخفاض العرض وازدياد الطلب، في سياق شحّ الدولار في السوق بالترافق مع خلق النقد بالليرة اللبنانية. فقد تراجعت حركة الأموال الوافدة إلى لبنان بشكل لافت، ما أدّى إلى عجز في ميزان المدفوعات بقيمة 10.5 مليار دولار في العام 2020 (وبقيمة 847 مليون دولار في الفصل الأول من العام 2021)، رغم تحسّن ​العجز التجاري​ والذي انخفض بنسبة 50% خلال السنة الفائتة. أمّا لناحية خلق النقد بالليرة، فقد زاد ​النقد المتداول​ بالليرة من 10 آلاف مليار ليرة في بداية 2020 الى حدود 37 ألف مليار ليرة اليوم، وذلك في سياق تنقيد العجز في المالية العامة من قبل مصرف لبنان إضافة الى مستلزمات ضخّ النقد بالليرة وفق التعميم 151 (تسديد الودائع بالعملات بالليرة على سعر 3900 للدولار).

هل ملاءة المصارف باتت تسمح اليوم بالتسديد التدريجي للودائع؟

إن ملاءة وسيولة المصارف تعزَّزت بعض الشيء نتيجة التزامها بتعزيز رساميلها بنسبة 20%، والاستحواذ على سيولة خارجية بنسبة 3% من الودائع بالدولار وفق متطلبات مصرف لبنان، ما يساهم نسبياً في تحفيز المكانة المالية للقطاع بشكل عام.

إلا أن هاتين الخطوتين رغم أهميتهما، ليست كافية بحدّ ذاتها لتطبيع عمل ​القطاع المصرفي​ اللبناني، وإعادة نشاطه الى ما كان عليه قبيل الأزمة.

الحلول ما زالت موجودة، إنما هذه الحلول يجب أن تكون على مستوى كُلّيّ وليس جزئي لتكون فعالة. بمعنى آخر يجب أن تكون على مستوى الدولة ككلّ، وليس على مستوى القطاع المصرفي (Stricto Sensu)، لأن المعضلة عامة، من جراء الترابط الوثيق بين المصارف ومصرف لبنان والدولة والاقتصاد الكلّي.

وبالتالي الخروج من المأزق، يجب أن يكون عن طريق حلّ عام ينطوي على تشكيل حكومة ذات صدقية، إطلاق عجلة الإصلاحات المنشودة، وإبرام اتفاق مع "صندوق النقد الدولي"، وبالتالي الحصول على المساعدات الدولية في ظلّ التأثير الذي يتمتع به الصندوق على الدول المانحة والمؤسسات المانحة.

ما هي الخيارات المتاحة مستقبلاً؟

في الواقع هناك خياران، الخيار الأول الذي يجب تجنّبه بكافة الطرق يتمثّل بسيناريو المراوحة والجمود واللا إصلاح على مستوى الدولة، والذي قد يؤدي في نهاية المطاف إلى الفوضى المطلقة، في حين أن الخيار الثاني، يقوم على إعادة هيكلة منتظمة وفق برنامج إصلاحي مع "صندوق النقد الدولي"، من شأنه أن يكون المفتاح للتصحيح الضروري للوضع المالي بشكل عام.

في الحقيقـة، إن خيار إعادة الهيكلة المنتظمة، ينبغي أن يترافق مع الالتزام ببرنامج لـ "صندوق النقد الدولي" يشمل الإصلاحات الهيكلية والمالية المطلوبة، ما من شأن ذلك أن يساهم في استعادة الثقة وإطلاق مساعدات مؤتمر "سيدر"، و​استثمارات​ أخرى في الاقتصاد الوطني. وهو ما ينبغي أن يعتمد على خفض العجز المالي للدولة اللبنانية عن طريق إصلاحات مالية، وإنشاء صندوق سيادي يتضمّن قسطاً من أصول ​الدولة اللبنانية​ يقدّر بنحو 30 مليار دولار، ضخّ السيولة في القطاع المصرفي من خلال خطوط ائتمانية مقابل ​احتياطي الذهب​، ناهيك عن تحرير سعر صرف العملة الوطنية، ما من شأنه أن يُخفّض ​الدين العام​ بالليرة اللبنانية، ويجب البدء بمفاوضات جدّية مع حاملي سندات "اليوروبوندز" السيادية. إن الهدف من هذا الاتجاه هو ضمان توزيع عادل ومنصف للخسائر بين جميع العملاء الاقتصاديين، وتخفيض الدَّين العام إلى مستويات مستدامةـ أي بحدود 100% من ​الناتج المحلي​ الإجمالي، وتحرير جزء من أموال المودعين دون التطرّق إلى إجراءات "Haircut"، وأخيراً المساهمة في إعادة الثقة في الاقتصاد الوطني، وفي القطاع المصرفي، لتعزيز القدرة على إعادة جذب الأموال إلى الاقتصاد المحلي بشكل عام.