يترقب اللبنانيون بحذر الخطوات التي سيسلكها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بعد إعلانه الأسبوع الماضي عزم المصرف المركزي إطلاق مبادرة جديدة تهدف إلى "إراحة اللبنانيين"، من خلال حصول بعض المودعين بشكل تدريجي على ودائعهم بالعملات الأجنبية كافة.

خبرٌ أحدث صدمة لدى اللبنانيين عمومًا، والمصرفيين خصوصًا، كما أحدث تشكيكًا لدى معظم الخبراء والمراقبين الماليين والاقتصاديين.

إذ إنها المرة الأولى منذ تاريخ 17 تشرين 2019 يسمع فيها اللبنانيون عبارة "سداد ودائعهم". فبعد النكسة المالية التي أصابت المصارف منذ أواخر الـ 2019، فقد اللبنانيون ثقتهم بالقطاع المصرفي، لعدم قدرتهم على سحب ودائعهم بالعملات الأجنبية، وفي بعض الأحيان بالليرة اللبنانية. وعدم قدرة البعض الآخر إجراء تحويلات إلى أبنائهم الموجودين خارج البلاد. كذلك الأمر فقدوا ثقتهم بالوعود التي سبق وتحدث عنها الحاكم في ما خصّ المحافظة على ودائعهم، بعد مشاهد الذلّ التي عاشوها ولا يزالون أمام أبواب المصارف، والطوابير التي وقفوا فيها لساعات وساعات، علهم يستطيعوا سحب ولو جزء بسيط من شقى عمرهم.

لذلك أحدث بيان الحاكم صدمة لدى هذه الفئة من الناس، خصوصًا لناحية عبارة "إراحة اللبنانيين"، مع العلم أن مصرف لبنان، سبق وَحَذَّرَ المعنيين أنه لم يعد يملك من العُملات الأجنبية ما يسمح باستمرار دعمه للمواد الأساسية التي يحتاجها المواطن في حياته اليومية. فمن أين سيأتي بالأموال لتسديد ودائع الناس؟

لم يُحدث بيان الحاكم صدمة لدى اللبنانيين فحسب، إنما لدى القطاع المصرفي أيضًا، الذي يعيش منذ 17 تشرين الأول 2019، حالة من التخبط والضبابية الكاملة، خصوصًا وأن الحاكم تحدث في بيانه عن نجاح التعميم رقم 154 والذي التزمت غالبية المصارف اللبنانية بمندرجاته وزادت رأسمالها بنسبة 20 في المئة، كذلك استطاعت تكوين أموال لدى المصارف المراسلة بنسبة 3 في المئة من ودائعها الإجمالية بالدولار. وهنا تسأل المصارف من أين سيتم تأمين الأموال؟ وعلى أيّ معيار سيتم توزيعها على المودعين؟

المصارف ترفض استخدام نسبة الـ 3 في المئة من "الفرش دولار" التي أودعتها المصارف في الخارج بموجب التعميم رقم 154 الذي تحدث عنه سلامة في بيانه، لذلك يبقى أمام المركزي خياران إما لجوئه إلى تخفيض نسبة الاحتياطي الإلزامي، وعندها يُحرر جزءًا من هذا الاحتياطي ويتم إعطاءه للمودعين. وإما سيلجأ إلى تقاسم هذه المبالغ بينه وبين المصارف.

بكل الأحوال، سيقوم مصرف لبنان بعملية تفاوض مع جمعية المصارف كممثلة للمصارف التجارية في لبنان حول هذا الموضوع، خصوصًا وأن سلامة حدد موعد نهاية حزيران المقبل للبدء بعمليات الدفع التدريجي للودائع التي كانت قائمة قبل 17 تشرين الأول 2019 وكما أصبحت في 31 آذار 2021، وذلك بالعملات كافة.

معظم الخبراء الاقتصاديين شككوا ببيان الحاكم خصوصًا لناحية توقيته، واعتبروا أن هناك قطبة مخفية وراء هذه الخطوة.

فمن غير المنطقي بحسب رأيهم أن يلجأ المصرف المركزي إلى ضخ عملة صعبة في الوقت الذي يعيش فيه لبنان أسوأ أزمة اقتصادية، مالية ونقدية مصحوبة بانهيار الليرة، وفي الوقت الذي تتخبط فيه الطبقة السياسية بقراراتها في ما يتعلق بالبطاقة التمويلية وكيفية تأمين مصادر تمويلها، وتضغط في الوقت عينيه على مصرف لبنان من أجل الاستمرار بدعم المواد الأساسية حتى آخر دولار. وفي ظلّ غياب أي توافق سياسي بالمدى المنظور من أجل تشكيل حكومة فاعلة تعمل على استعادة الثقة الداخلية والخارجية، وأن تبدأ بمفاوضات جديّة مع صندوق النقد الدولي من أجلّ القيام بالإصلاحات المطلوبة وضخ السيولة من العملات الأجنبية، مما قد يُخفف الضغط على الليرة.

إذًا يعتقد هؤلاء أن خطوة سلامة لن تكون سوى عملية تخدير مؤقتة للمواطنين، في ظلّ المصائب التي تنتظرهم في المستقبل، خصوصًا في حال تم رفع الدعم.

أما البعض الآخر، فاعتبر أن الحاكم أراد توجيه رسالة إلى الحكومة والقوى السياسية التي تضغط لتمويل البطاقة التمويلية من أموال الاحتياطي الإلزامي، فرمى بوجهها البيان.

ليبقى السؤال من هي الفئة التي بإمكانها أن تستفيد من هذه الخطوة في حال أبصرت النور؟

لقد طلب مصرف لبنان من المصارف التجارية تزويده بالمعطيات اللازمة ليبني عليها خطة، يتم بموجبها دفع مبالغ قد تصل إلى 25 ألف دولار أميركي، وبالدولار الأميركي أو أي عملة أجنبية، إضافة إلى ما يساويها بالليرة اللبنانية.

من المتوقع أن يحصل أصحاب الودائع التي تصل قيمتها إلى الـ 50 ألف دولار على حوالي 25 ألف دولار كحد أقصى، على أن يتم تحديد قيمة الدفعات تبعًا للمبلغ الموجود في حساب المودع. هذه المبالغ سيتم دفعها بالتقسيط خلال 3 سنوات وقد تمتد إلى 4 سنوات بمعدل حوالي 170 دولارًا أُسْبُوعِيًّا.

ويبقى أن هذه الآلية ستكون قابلة للتغيير والتعديل نظرًا لارتباطها بمعايير التوزيع والحسابات الموجودة، وللمفاوضات التي سيجريها مصرف لبنان مع جمعية المصارف.

ولكن ماذا عن شرط التغطية القانونية الذي طلبه المركزي لبدء تنفيذ هذه الخطوة؟

اجتهد القانونيون في تفسير هذه العبارة التي أوردها الحاكم في بيانه، خصوصًا وأن سحب المودعين لأموالهم لا يحتاج بالأساس إلى تغطية قانونية، كذلك الأمر بالنسبة لتخفيض الاحتياطي الإلزامي للمصارف في مصرف لبنان. ليبقى موضوع إقرار قانون "الكابيتال كونترول" في المجلس النيابي، والذي قد يكون هو المقصود، من أجل تحديد سقوفًا للسحوبات والتحويلات، بما يتماشى مع المبلغ الذي حدده مصرف لبنان أي 25 ألف دولار كحدٍّ أقصى.

لا شك بأن خطوة كهذه قد تفتح نافذة أمل لدى البعض لاستعادة جزءًا بسيطًا من ودائعهم العالقة منذ 17 تشرين الأول 2019، لكنها بالطبع لن تعيد الثقة إلى هذا القطاع في ظلّ الضبابية التي يعمل بها، وفي ظلّ غياب أي رؤية واضحة من قبل السلطة السياسية لوقف النزيف الحاصل في القطاعات كافة، وفي ظلّ التعنت الحاصل في موضوع تشكيل الحكومة، مما ينعكس سلبًا على الأوضاع المالية والنقدية للبلاد، وعلى انهيار الليرة.

الجميع اليوم بانتظار الخطوات العملية لهذا الطرح ليُبنى على الشيء مقتضاه.