حتى تاريخه، لم نلمس ولم نجني من سياسات المسؤولين واصحاب القرار إلا البرامج الإعتباطية ذات النتائج الكارثية من الدعم وتمويله من جيوب المودعين، الى قرارات التعبئة لمواجهة وباء كورونا والاستنسابية في قرارات الفتح والإغلاق، الى تسديد السلفات لمؤسسة ​كهرباء لبنان​ بدون رقيب وحسيب فيما أن لبنان بكافة مناطقه في ظلمة دائمة، الى فتح معابر التهريب على انواعها وأخطرها والى غيرها من الأمور المعيبة إن دلت على شيء فإنما هي تجسّد الغباء والعناد ونكران الفشل الذي وصلنا اليه بسرعة لافتة.

في موازاة ذلك، للأسف، الأزمة المصرفية تتفاقم مع غياب الإرادة السياسية ، الهادفة لاعتماد وتنفيذ خطة إصلاحات حقيقية ذات مغزى مباشر في تقليص حجم الخسائر الواقعة على المودعين. وكل مدرك للوقائع يعلم أن إمكانية استعادة الحقوق المودعة بالدولار أميركي توازي تماماً فرص استمرارية ​القطاع المصرفي​ اللبناني، والعكس صحيح. لأن تحميل كل الخسائر للمودعين يعني ذوبان البنوك الحالية في جيوب القيمين على إداراتها والمنتفعين منها، وإعاقة عملية بناء صناعة مصرفية لبنانية في المدى المنطقي للأمور.

في المدة الأخيرة، تم تسريب اقتراح قانون الكابيتال كونترول وهو إحدى المسوّدات التي تمّ تداولها بين لجنة المال وأعضائها من جهة، و​المصارف​ و​مصرف لبنان​ والوزارات المختصّة من جهة أخرى. صحيح انه ليس المشروع النهائي، ولكنه يتضمّن بنسبة كبيرة معالم هذا المشروع الذي تمّ التوصل اليه.

وفق بعض المطلعين إن إقرار القانون يضعنا على السكّة الصحيحة في المفاوضات مع ​صندوق النقد الدولي​، خصوصاً أنّ اللجنة احتكمت الى ملاحظاته التي يتلاقى معها القانون بأكثر من 80 في المئة. ويصبح إقرار الكابيتال كونترول مفيداً لا بل حاجة وطنية إنقاذية، حتى ولو جاء متأخراً، لأنّ الصندوق لن يموّل لبنان الا إذا ضَمِن أنّ الأموال لن تهرّب بطريقة غير مشروعة.

هل الصيغة التي كُشف عنها مؤخراً عن قانون الكابيتال كونترول الذي عملت عليه اللجنة الفرعية في في ​مجلس النواب​ حيثُ سجل اعتراض لافت للمصارف هي الصيغة الذي ستُطبق فيما لو سُمح بذلك ؟

من المعروف ان الكابيتال كونترول هو من ابرز شروط صندوق النقد. ما هي الخطوط العريضة لمشروع ناجح وقابل للتطبيق يُنصف المودعين دون إلحاق الضرر بالمصارف؟

الكيك

تقول استاذة القانون المتخصّصة بالشأن المصرفي، الدكتورة سابين الكيك "للاقتصاد" ان المسودة المسربة هي واحدة من سلسلة اقتراحات كان أولها منذ أكثر من سنة وجميعها لم يتم عرضها على الهيئة العامة في مجلس النواب، والأرجح أن هذه المرة أيضاً، ستلقى هذه المسودة المصير عينه وستقبع في أدراج واضعيها.

تحمل النسخة الأخيرة، الكثير من التجاوزات التي تجعل القانون في حال اقراره معرّضا للطعن أمام المجلس الدستوري، وأبرزها:

• ​مخالفة​ مبدأ عدم مرجعية القوانين حيث تنص المادة ٧ أن هذا القانون سيكون ساري المفعول حتى على الدعاوى المقامة قبل صدوره ولم يصدر بشأنها حكم مبرم، وهذه مخالفة لقواعد الانتظام العام.

• جعل القرارات الصادرة بما يتعلق بمسألة رفض التحويل غير قابلة لأي طريق من طرق المراجعة القضائية، وهنا تجاوز أيضاً لحق التقاضي كما لصلاحيات السلطة القضائية لصالح الاجهزة المصرفية التي يكون لها الكلمة الفصل والقرار النهائي.

وعوض أن يأتي هذا القانون للحدّ من الاستنسابية وعدم المساواة في التعاطي مع المودعين صنّفت بنوده الودائع إلى فئات دون تبيان الغاية المرجوة أو المعايير التي اعتمدت لهذا التمييز.

ومن الملاحظات الأساسية التي نرفضها في هذه المسودة أنها تعطل كل النصوص القانونية التي تتعارض معها، بحيث ستصبح هي القاعدة وحق التصرّف بالملكية هو الاستثناء، مما يعني تغيير جذري في المفاهيم القانونية الناظمة للعلاقات المصرفية الأمر الذي سيزعزع القطاع وسيفقد التشريعات خصائصها الجوهرية.

أما عملياً، من أخطر الانعكاسات على حقوق المودعين أنها ستبرئ ذمة المصارف حكماً وبموجب قرينة قانونية غير قابلة لإثبات عكسها، بمجرد ردّ الأموال المودعة بالعملة اللبنانية وضمن سقوف لا تأخذ في الحسبان الرقم الإجمالي للحساب، وبالتالي، مع توقعات انخفاض العملة اللبنانية أكثر واكثر قد يحتاج بعض المودعين لفترات طويلة جداً لسحب أموالهم فيما لو سلمنا جدلاً أنهم ارتضوا أخذها بالعملة الوطنية.

صندوق النقد لحماية صغار المودعين

وتعتبر الكيك ان التسويق لاقتراحات الكابيتال كونترول بكل النسخ المسربة حتى الآن، على أنه من باب الرضوخ لمتطلبات صندوق النقد فيه تشويه للغاية المرجوة من القيود بحسب مفهوم صندوق النقد. الكابيتال كونترول ليس هدفاً بحد ذاته، وليس حلاً قائماً بعينه، إنه بكل بساطة اجراء مؤقت بفترة زمنية جداً محدودة لمنع هروب ​رؤوس الأموال​. منذ ١٧ تشرين ٢٠١٩، الكابيتال كونترول مفروض بحكم الأمر الواقع والأزمة تزداد سوءاً يوماً يوم. صندوق النقد رفض على لسان رئيسته في مؤتمر داعمي لبنان بعد انفجار المرفأ أن يتحمّل صغار المودعين الخسائر، واعتبرت أن من يجب أن يتحمل هم أولئك الذي استفادوا من العوائد المفرطة. المؤسسات الدولية تدرك جيداً مخاطر استنزاف المدخرات الوطنية وتداعيات ذلك على الاقتصاد.

اما عن الضمانات المساهمة في تطبيق الكابيتال كونترول الذي يرى فيه البعض لزوم لا يلزم، فتقول الكيك : للأسف لا ضمانة، طالما هنالك عدم شفافية في القطاع المصرفي، هذه الأزمة تستدعي التعاطي معها بوضوح ومصارحة المودعين بالأرقام، والكشف عن ميزانيات كل مصرف على حدة. القطاع المصرفي فقد مصداقيته الوطنية والعربية والدولية وها هو يمعن بالتواطؤ مع الطبقة الحاكمة بتوسيع الشرخ وجعل الحلول الممكنة أكثر إيلاما يوماً بعد يوم.

ويجب أن نكون صريحين أن الازمة المصرفية رمت بثقلها على كل القطاعات الاقتصادية وليس العكس، وضعت يدها على مدخرات الشعب وهي ممتنعة تعسفا عن اعادتها. وفي المقابل، عاجزة عن ممارسة دورها في تمويل الاقتصاد بينما كل دول العالم تسعى جاهدة لبرامج تمويلية تحفيزية بعد أزمة كورونا.

كيف يمكن لمن يتمّسك بالكابيتال كونترول بمعزل عن خطة متكاملة أن يضمن تنفيذه بعد كل التسلّط التي تمارسه المصارف وصولاً الى حدّ تمنع بعضها عن تنفيذ قرارات قضائية مبرمة.

وعن الآلية المتبعة او المسار القانوني السريع الواجب إتباعه لتنفيذ القانون توضح الكيك ان المسودة المسربة تبّين أنها ستقدم بصيغة اقتراح قانون معجل مكرر، وهنا أيضاً السؤال يطرح عن دستورية طرحها بهذه الصيغة غير العادية في الحياة التشريعية؟ هذا يعني أنه عند وضعها على جدول أعمال جلسة مجلس النواب بهيئته العامة ستطرح على التصويت أولاً بصفة العجلة وثم الاقتراح المقدم.

القانون قبل الحكومة!

في مطلق الأحوال، لا يجوز استباق الأمور خصوصاً ان الاولية اليوم هي لتشكيل حكومة ذات مصداقية، تتمتع بالثقة المطلقة، ترسم الخطط الانقاذية وتفاوض صندوق النقد والجهات المانحة من موقع القوة، لا تضييع الوقت وتفويت الفرص المتاحة، حتى وان كانت السلطة التشريعية تحاول اليوم تكثيف نشاطاتها مستبقة معركة الانتخابات النيابية بانجاز قانوني لن يرضي حتماً جميع الأطراف ولكنه سيكون اعتماداً جديداً في سجل المجلس الحالي.