شاب في الخامسة والعشرين من عمره، يهاجر الى بلد فقير في ​افريقيا​ للعمل براتب 500 دولار شهريا، وهو ما كان يشكل (تقريبا) الحد الادنى للاجور في لبنان، ايام ​الدولار​ بـ 1500 ليرة.

ثلاثة ​اطباء​ بارزين (من أصل خمسة ) في قسم الجراحة في أهم مستشفى في لبنان، يهاجرون للعمل في الخارج برواتب أقل مما كانت تساويه رواتبهم قبل الازمة الراهنة.

أسرة "مرتاحة " ماديا، اي من الطبقة المتوسطة، وتعمل في التجارة ، قررت ترك لبنان، للانتقال الى مكان آمن، يصلح لتربية الاولاد وتعليمهم.

آلاف الطلاب الذين ينهون دراساتهم في الخارج يبقون حيث هم، ويقبلون باي وظيفة تجنبهم العودة الى "جحيم" بلدهم. وكذلك آلاف الخريجين الجامعيين في لبنان، يغادرون سنويا الى اول بلد يستقبلهم للعمل لقاء حفنة من الدولارات.

هذه عينات من حالات ال​هجرة​ الجارية الآن بكثافة وسرعة لا تحد منهما سوى عوامل واسباب تتعلق بالدول المضيفة، لجهة توفر التأشيرات وفرص العمل..

"نيال مين عندو مرقد عنزة برات لبنان "، هو الشعار الجديد للبنانيين، فبعد ان كان لبنان وطن ​الأرز​ والجمال والحرية والحياة، صار بلدنا وطن الموت و​الجوع​ و​الفقر​ و​العبودية​.

الارقام مخيفة: 870 الف طلب هجرة (أو تاشيرة سفر عادية ) مسجلة في السفارات. 130 الف منها في سفارة واحدة، ولم تعد دول الهجرة مثل ​كندا​ و​استراليا​ و​اميركا​ هي الوجهة الحصرية ، فالمعادلة الجديدة هي: ان اي بلد هو افضل من لبنان اليوم.

في ايلول 2019 انتهى زمن الكذب اقتصاديا، عندما بدأ الدولار يتحرر من سجن الـ1500 ليرة.سقطت الاوهام كلها دفعة واحدة: البلد منهار منذ سنوات،ووحدها ​عمليات التجميل​ الرديئة، كانت تزين الوجه القبيح للواقع. خرج الناس الى الشارع في 17 تشرين، ليكتشفوا ان احدا لا يستطيع منع الانهيار الشامل، في غياب قيادة بديلة للمنظومة الحاكمة، وفي ظل امعان الاخيرة في سلوكياتها، فهي اما متآمرة واما عاجزة .

الاحباط أدى مباشرة الى التفكير بالهجرة، ولكنه ظل محصورا بفئات معينة، يمكن تصنيفها من النخب. نخب كانت تحلم بالتغيير، فلما فشلت اعلنت يأسها واستسلامها، اذ وجدت ان معسكر الازلام والمحاسيب والاتباع والبلطجية أقوى من نبض الناس.

لم تمض شهور قليلة حتى وقع انفجار المرفأ الذي فجر معه ما بقي من آمال بال​اصلاح​ والبناء مجددا، اذ عندما تتصدى القوى المتسلطة على البلد بفجور لا مثيل له، لاي محاولة للتحقيق الجدي وتحديد المسؤوليات، وعندما يتبين أن دولة باكملها مسؤولة عن هذه الكارثة، وان لا شيء يضمن عدم تكرار هذه المأساة في مكان آخر، وفي اي وقت .. فان الاسلم هو الهرب الى ​الامان​.. بعيدا عن لبنان.

حتى آب 2020 كان بالامكان الحديث عن أمل، ورغم ان انفجار المرفأ أجهض هذا الامل، الا ان الاندفاعة العربية والدولية لمساعدة لبنان، أحيت رجاء اللبنانيين، ليس بسبب الاموال و​المساعدات​ المادية التي قدمت، بل بفعل الالتفات الى الازمة العميقة وضرورة حلها، وقد برز اكثر ما برز الحضور الفرنسي. ولكن سرعان ما اسقط ابالسة السياسة اللبنانية كل مساعي الخير القادم من الخارج.

بعد عام على بدء ظهور الازمة، اي في ايلول 2020، صار أكيدا اننا دخلنا في مرحلة السقوط الحر، فلم تفلح الاجراءات الترقيعية ل​مصرف لبنان​ في لجم التدهور المالي،واستقالت الحكومة التي يفترض انها "حكومة اختصاصيين واصلاح" ، بعد ان تكالبت عليها الاحزاب لافشالها، وساهمت هي بغبائها وعجزها عن ايجاد اي حل لاي شيء ، بتسريع هذا السقوط.

تفلت الدولار من كل الضوابط، وارتفعت الاسعار بشكل جنوني،وغرقت الاسر اللبنانية اكثر في مستنقع الحاجة والفقر. وقتها قدرت "​الاسكوا​" أن ترتيب لبنان انخفض وتضاعفت ارقام الفقر، بحيث وصلت الى 55% من مجموع السكان، وكذلك فعل ​صندوق النقد الدولي​ الذي توقع أن ينكمش ​الاقتصاد اللبناني​ بنسبة 25٪. كذلك، انخفضت ​الواردات​ إلى النصف لأن القوة الشرائية اللبنانية تلاشت مع انهيار الليرة، التي فقدت أكثر من 80٪ من قيمتها مقابل الدولار في العام 2020 .

في الاشهر الثلاثة الاولى من العام الحالي 2021 تفاقم الوضع اكثر، فقد انتهى العام السابق على سعر صرف للدولار هو أقل من 9 الاف ليرة ، واليوم يسجل حوالى 13 الف ليرة ، بعد ان أطاح سقف الـ 15 الف ليرة ، ولا شيء يضمن تحليقه مجددا.وخصوصا مع اقتراب موعد رفع الدعم عن السلع الاساسية، ما سيخلق طلبا غير مسبوق على العملة ال​اميركية​ من ​السوق السوداء​، او من المنصة الجديدة التي سيطلقها مصرف لبنان، والتي لن تؤدي سوى الى خلق سعر جديد (اسود) للدولار.

لقد تناولنا في مقال سابق حجم ​التضخم​ و​ارتفاع اسعار​ الاستهلاك الجنونية.وخلصنا الى ان ​الليرة اللبنانية​ فقدت 90 في المئة من قيمتها، وان نسب التضخم فاقت الـ 400 في المئة ، وان بعض الاسعار ارتفعت بنسب تتراوح بين 400 و 600 في المئة .

لم تعد الهجرة رغبة النخب الباحثة عن حياة مترفة أو مرتاحة، وانما صارت هاجسا عن الجميع من دون استثناء، وحتى الذي لا ينوون السفر حاليا ، فانهم يفكرون بهذا الامر كخيار ثان قائم.

في الاشهر الماضية، وبعد انفجار 4 آب غادر عشرات الالاف خلال ايام قليلة، وهؤلاء كانوا من حملة جنسية ثانية. تلا ذلك هجرة كبيرة في صفوف الجسم الطبي والصحي نظرا لتزايد الطلب عليه في الخارج بسبب وباء كورونا ، وآخر الارقام تفيد ان اكثر من الفي ​طبيب​ غادروا ، ومثلهم من العاملين الصحيين. ولاحقا ، ومع تخفيض الدول لقيود الانتقال والسفر ، ومع اعادة فتح اقتصاداتها، بدأت تتوفر فرص هجرة اكبر للبنانيين،وخصوصا لليد العاملة المتعلمة والمدربة.

وما يدل على يأس اللبنانيين هي الهجرة غير الشرعية في البحر باتجاه ​قبرص​ و​اليونان​ كمحطتين للانتقال لاحقا الى دول اوروبية واميركية اخرى ، وهذه ​الرحلات​ محفوفة بالمخاطر، حيث يموت الكثير من الناس غرقا بالعشرات.عدا عن شبكات التهريب غير القانونية عبر ​مطار بيروت​ والمعابر البرية.

هذا الارتفاع المتنامي في أعداد المغادرين يعكس رغبة شديدة لدى اللبنانيين، في الهجرة نحو أي بلد يحفظ كرامتهم الإنسانية وحقوقهم الأساسية، بعدما فقدوا الأمل ببناء وطن يضمن أمنهم وسلامتهم، ويؤمن أبسط مقومات العيش الكريم.

الدولة المستقيلة من مهامها لا تبالي ، ولعلها لا تعرف ماذا يجري. وخير دليل هو ان لا ارقام ارقام دقيقة او ​احصاءات​ رسمية، تبين حجم الهجرة الجارية حاليا، ومن اولى مهام اي دولة تحترم نفسها، ان تعرف اين يعيش شعبها، كيف يعيش. ولكن هذا غير مهم في النظام الطائفي القائم ، وكل ما يهم هو المورد الجديد الذي ستؤمنه الهجرة،عله يساهم في انعاش الخزينة العامة المفلسة من خلال ضرائب ورسوم جديدة.

المهاجرون يحلون محل الدولة اليوم لانهم يزودون البلد بمبالغ كبيرة من الدولارات الطازجة، وفي وقت يستمر الانفاق الحكومي العشوائي، ويحرم المواطن من ابسط التقديمات الاجتماعية (مثل خدمات الضمان وصناديق التعاضد ووزارة الشؤون الاجتماعية وغيرها .. )، وفي وقت يترك الفقراء لاحزاب وجمعيات تذلهم بـ"كراتين الاعاشة "، فان ​المهاجرين​ يقومون بالمهمة .اذ تستفيد اكثر من 200 ألف عائلة من تحويلات خارجية لأفراد منها يعملون في المهجر. وباتت هذه العائلات تنتظر بفارغ الصبر هذه ​التحويلات​ كي تحافظ على مستوى معيشة مقبول ، وهو ما لا تقدر عليه الغالبية العظمى من اللبنانيين.

في العام 2019 قدرت هذه التحويلات بـ7 مليارات دولار،وقد تراجع حجمها في النصف الاول من عام 2020 بحدود 25 في المئة نتيجة الأزمات التي شهدتها الدول التي يعمل فيها اللبنانيون في الخارج، بسبب ازمة كورونا ، كما ساهمت اجراءات مصرف لبنان التعسفية لفترة من الزمن ، والقاضية بـ"بمصادرة " الدولارات ودفعها للمستفيدين بالليرة على اساس 3900 ليرة للدولار، في الحد من التحويلات الشرعية. ولكن النصف الثاني من العام 2020 شهد عودة انتعاش التحويلات ، لتبلغ حسب آخر الاحصاءات غير الرسمية حوالى 600 مليون دولار شهريا.

ومن المتوقع انه كلما زاد عدد المهاجرين ارتفعت قيمة التحويلات، ومن غير المستبعد ان ينقسم شعب لبنان الى نصفين: نصف عامل في الخارج، ونصف مستهلك في الداخل. وهذه لعبة جهنمية تناسب السلطة لانها تغنيها عن العمل لتأمين فرص العمل لمواطنيها. ولكن الى متى سياسة لحس المبرد؟ وهل يستطيع الاقتصاد اللبناني الصمود عندما يتحول الى احادي الطابع ، اي استهلاكي محض؟

في العام الماضي تحدث صندوق النقد الدولي عن ​انكماش​ الاقتصاد بنسبة 25 في المئة ، فكيف سيكون عليه الوضع الآن اذا تدهورت ​القطاعات الانتاجية​؟

من تجربة شخصية اكتشفت تبرم المصارف من ظاهرة تحويل الدولارات الطازجة الى لبنان بالقطارة ، اي ان المهاجر يرسل شهريا الى ذويه مبلغا يكفيهم لتأمين احتياجاتهم فقط. وبطبيعة الحال فان المتلقي لن يترك دولارا واحدا في حسابه المصرفي، وهو يسحب المبلغ المحول حتى آخر سنت. اولا لحاجته ، وثانيا لعدم ثقته بان ما يمكن ان يتركه من دولارات في الحساب لن يتبخر كما تبخرت سابقا ودائعه. والخلاصة ان ​المصارف اللبنانية​ لن تستفيد من ظاهرة التحويلات وارتفاع نسبها سوى بالعمولة التي تتقاضها على كل حوالة، ولن تحصل على اي ودائع جديدة من المغتربين، كما انها لن تحظى باي ودائع عربية واجنبية، فهل يصمد القطاع المصرفي من دون ودائع ، ومن دون سيولة بعد تحول البنوك الى مجرد وسيط ، مثلها مثل اي شركة تحويل اموال؟

وكيف يمكن لاقتصاد ان ينهض في ظل قطاع مصرفي مفلس.

التداعيات الاقتصادية لهذه الهجرة المتزايدة اكبر بكثير مما يمكن ان نتوقع، فالفئة الشابة المتعلمة هي التي تهاجر بحثًا عن فرص عمل خارج لبنان، ولهذا النوع من الهجرة تأثيرا كارثيا على الاقتصاد اللبناني، لأنه يطال الفئة المنتجة التي تؤثر في عجلة الإنتاج، وعلى المدى المنظور قد تؤدي إلى تدهور مضاعف في الخدمات الطبية والتعليمية والبناء والتكنولوجيا والصناعة والزراعة.. ومختلف القطاعات الأساسية.

لبنان لن يحصل على أي دعم خارجي، وحتى لو حصلت تسوية سياسية اقليمية دولية وقرر اصحابها ابقاء لبنان على قيد الحياة ، فان شروط انعاش البلد ستكون قاسية للغاية على شعبه، وكلنا نعلم ان النموذج الاقتصادي اللبناني سقط لانه كان قائما على الدين من الخارج ، ولا يمكن الرهان على نهوض اقتصادي بالاعتماد على الواردات الخارجية فقط .

في انتظار القادم من الايام السوداء ، يهاجر المزيد من اللبنانيين ، بحثا عن النجاة ، والسلطة غير مبالية بانتظار ضوء اخضر خارجي ما ، ولسان حالها يقول للناس : لا بأس هاجروا... وارسلوا دولاراتكم.