عندما مررت باحد المطاعم المتواضعة في بيروت لاسأل عن اسعار الافطار في شهر رمضان المبارك، صعقت من الجواب : 130 الف ليرة وجبة افطار كاملة للشخص الواحد، اما السعر الثاني (100 الف ليرة) ، لوجبة غير كاملة، تقتصر على الحساء والفتوش والمعجنات. وهذا في مطعم بسيط يقصده ، او كان يقصده ، الموظفون وذوي الدخل المحدود.

ازمة الاسعار ليست فقط ازمة اقتصادية – مالية ، ولكنها ايضا ازمة ادارة ونظام كان في ما مضى يدير الفوضى وينظمها، ولكنه اليوم تخلى حتى عن هذه المهمة، وترك الناس لانفسهم يتدبرون امورهم بما بقي من قيمة لرواتبهم، اذا كانوا من العاملين.اما العاطلون عن العمل فتلك مأساة أخرى.

لندع المطاعم جانبا فيبدو انها صارت مكانا حصريا للاغنياء، او للمستفيدين من رواتب بالدولار، او الذي أنعم الله عليهم بافراد مهاجرين من العائلة، قد يرسلون اليهم الدولارات الطازجة.

لنتحدث عن الاسعار في السوبرماركت حيث تتفاوت اسعار السلعة الواحدة، من الصنف نفسه ، بين محل وآخر، ويصل الفرق الى 30 في المئة. هكذا هي اسعار الزيت والارز والعدس وسائر اصناف الحبوب .. والحليب وباقي السلع الغذائية، وخصوصا اللحوم .

"فوضى الدكاكين" هذه ليست من قبيل الصدفة، فاذا انتقلنا الى مستوى اعلى، الى حيث الارقام الرسمية ، المحلية والخارجية، نجد "التخبيص" على أشده ايضا.

يقدر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في كتاب بتاريخ 9 نيسان الحالي إلى وزير المال غازي وزني ان البنك المركزي عندما وافق على دعم السلع الاساسية، وتدخّل في السوق بائعاً للدولار، كبح التضخّم عند مستوى 84% بدلاً من 275% التي كانت ستصبح واقعاً لولا تدخّله.

مناسبة الكتاب الطلب الى الحكومة حسم قرارها بترشيد الدعم لان استمراره بات يهدد الاحتياطي الالزامي في مصرف لبنان والذي يقدر بـ 16 مليار دولار. ولسنا هنا في وارد نقاش موضوع الدعم وما يجب فعله، سواء بالغائه او ترشيده، فهذا الموضوع أشبع شرحا وتحليلا ، وتأكد ان الدعم لم يحقق معظم الاهداف المرجوة منه.

موضوعنا الآن هو في التضارب الكبير للارقام التي تقدر التضخم في لبنان، تماما كما يجري في "دكاكين الحي"، فبحسب التصنيف الذي يعتمده برنامج الأمم المتّحدة للغذاء والزراعة،فان المعدل يقارب 150%، ونسبة ارتفاع في أسعار السلع الغذائية تفوق 400%. كلّ ذلك في ظل انهيار القدرة الشرائية للأجر بنسبة 90% تقريباً بعدما هوى الحد الأدنى للأجور إلى 50 دولاراً تقريباً.

قد يصح هذا التقدير عن العام 2020 ، حيث زادت أسعار الغذاء بنحو 245%، والالبسة والأحذية ازدادت بنحو 290%، وأثاث المنزل وتجهيزاته وصيانته ازدادت بنحو 387%،والنقل ازداد بمعدل وسطي نسبته 86%، والاتصالات 66%، والمطاعم والفنادق بنسبة 336%… وهذه ليست سوى زيادات المعدل الوسطي، اما الزيادات التي تقاس من الشهر إلى الشهر الذي يماثله في السنة الماضية، فهي أكبر بكثير.

أما في العام الحالي 2021 ، فتسجل الاحصاءات غير الرسمية ارتفاع اسعار المواد الغذائية والمشروبات غير الكحولية 402.3%، فيما ارتفعت المشروبات الكحولية والتبغ بنسبة 392.5%، وبالنسبة للملابس والأحذية فقد زادت 559.8%، كما ارتفعت خدمات المطاعم والفنادق بنسبة 609%، وسجلت أسعار المفروشات والمعدات المنزلية والصيانة الروتينية مستويات قياسية بعد ارتفاعها 655.1%. .ويمكن ان نضيف ارقاما مماثلة لصيانة وتصليح السيارت واجهزة الكومبيوتر والهواتف وغيرها من اللوازم الضرورية.

ارقام مصرف لبنان لا تزال تتحدث عن تضخم مقدر بـ 84% ، لانه يحتسب اسعار المواد على اساس انها مدعومة، في حين ان الواقع يبين ان السعر الحقيقي للسلعة هو 5 اضعاف السعر المدعوم. والسلع التي يفترض ان تصل للمواطن مدعومة، لا تصل في الواقع، الا بنسبة 10 في المئة، اما الباقي فيهرب ويباع باسعار باهظة. وحده دعم قطاع المحروقات يظهر بعض النتائج الايجابية نسبيا، فلا يزال سعر صفيحة البنزين تحت السيطرة ، بحدود 35 الف ليرة ، ويستفيد منها المواطن، ولكن فقدانها المتكرر من السوق يثير الريبة والاستغراب. ولكن هذا لا ينطبق على المازوت المدعوم لمولدات الكهرباء، ففين حين ان السعر المحددة للصفيحة هو 28 الف ليرة ، فان الموزعين يتذرعون بفقدان المازوت ، وازاء الحاجة الماسة للمستهلك فانه يشتريها بسعر 32 – 35 الف ليرة.

الحديث عن رفع الدعم او ترشيده بات ممجوجا، وعندما تسمع الامهات وربات البيوت هذا الكلام ، يسألن : "ليش وين في مواد مدعومة ". وعندما ينظر الآباء العاجزون عن اعالة اولادهم كما يجب ، الى الاختلاف الكبير في اسعار السلع من محل الى آخر، يسألون : "مش أحسن اذا بطل في دعم وتوحدت الاسعار برقابة الدولة .. بس ما في دولة".

لا يدور النقاش الان حول بقاء الدعم او رفعه، ولا نختار أيا منهما . فالقرار ليس بيد الناس ولا الاعلام ، وانما القرار المتخذ هو الغاء الدعم كليا بعد شهر رمضان، اي في منتصف شهر ايار المقبل. وما يجب التركيز عليه هو كيفية ضبط الاسعار في اسواق متفلتة من القوانين .. ومن الاخلاق.

فهل من سلطة يمكن ان تنظم الفوضى على الاقل ؟

نعرف ان الازمة المالية مستعصية وأن حلها يتطلب وقتا وجهدا .. ودولارات كثيرة. ونعرف ان السياسيين مشغولون بخلافاتهم على الحصص في حكومة لن تكون لها مهمة سوى اعلان الافلاس .. لتنطلق بعد ذلك في حملة "الشحادة " على ظهر المواطن ومعيشته . ولكن الا يجدر بالاحزاب السياسية التي تدعي تمثيل الشعب والدفاع عن مصالحه ان تتدخل، ولو قليلا، من اجل لجم هذا الفلتان.. بدلا من اذلال الناس بـ"كراتين الاعاشة "؟