ما يتهرّب المسؤولون اللبنانيون عن الإعتراف به حول وضع لبنان قالها وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان بالفم الملآن: "لبنان ينهار".

وابعد من ذلك يقول لودريان:" أننا طلبنا من الاتحاد الأوروبي مناقشة الوضع في لبنان اليوم. لا يمكن للاتحاد الأوروبي أن يقف مكتوف الأيدي ولبنان ينهار. يجب تنفيذ إصلاحات في لبنان للخروج من الأزمة الحالية."

العالم قلق على لبنان والسياسيون فيه يتصارعون على المقاعد الوزارية فيما الشعب ينوح ويجوع حتى يصحّ القول "الرعيان بواد والقطعان في واد". لايجتمعون إلا لإقرار الصفقات وتوزيع المحاصصات. تم نهب كل ما تيّسر لهم من ودائع في المصارف واخترعوا صيغة الدعم المبطّن لتمويل التهريب وتشجيع الاحتكار لحوالي 300 سلعة بينها 30 سلعة غذائية وأساسية إلى جانب 270 سلعة تُصنّف مواد أولية تدخل في التصنيع ناهزت كلفتها الشهرية وفق تقرير لوزارة الاقتصاد، بين 6.5 إلى سبعة مليارات دولار سنوياً، أيْ بمعدّل 540 إلى 580 مليون دولار شهرياً، بينما لا تتجاوز قيمة كل ما استورده لبنان في الأشهر العشرة الأولى من العام الماضي 9 مليارات دولارمع جشع بارز لبعض التجار الذين ينقلون هذه السلع الى خارج لبنان وخصوصاً الى سوريا .

وهنا العبء الكبير الملقى على الاحتياطات الباقية لدى المصرف المركزيّ، فيما يستمر النافذون بتهريب رساميلهم وما كشفه سعد أزهري، رئيس مجلس الإدارة والمدير العام لـ"بنك لبنان والمهجر" لشبكة تلفزيون بلومبرغ عن تعرّض المصارف للضغوطات من قبل السياسيين لإخراج أموالهم من لبنان، وهي معلومات تؤكّد العهر السياسي المخيّم.

خطوات مشبوهة

سلسلة خطوات تم اتخاذها لتضاف الى مرسوم الانهيار الشامل من بينها إقرار اللجان النيابية المشتركة في 16 آذار إعطاء مؤسسة كهرباء لبنان سلفة بقيمة 200 مليون دولار أميركي من البنك المركزي بعد اعتراض حزبي "القوات اللبنانية" و"التقدمي الاشتراكي" وتصويتهما ضدّ اقتراح القانون المكرر المعجل الذي تقدّم به "التيار الوطني الحر" برئاسة النائب جبران باسيل، إذ خفّضت اللجان قيمة السلفة التي طلبها نواب "التيار الوطني الحر" من 1500 مليار ليرة لبنانية، أي ما يعادل مليار دولار أميركي، إلى 200 مليون دولار، وذلك بعد تعديل النصّ بحيث تستخدم المساهمة المالية لتغطية شراء الفيول فقط.

وإذ كان الاتجاه من وراء هذا الطلب تمويل بقاء البواخر التركية في جزء من المبلغ وفق مصادر مطلعة على شؤون الكهرباء ، فقد برّر النواب الذين صوّتوا مع تخفيض السلفة أنّ المبلغ يكفي الآن لفترة شهرين أو ثلاثة أشهر إلى حين تشكيل حكومة جديدة تضع برنامجاً إصلاحياً واضحاً وشفافاً يتولى تنظيم قطاع الكهرباء الذي يتوّقف الدعم الدولي له على جملة شروط تتضمن مكافحة الفساد والهدر.

وفي المقابل، اتى اعتراض حزبي "القوات اللبنانية" و"التقدمي الاشتراكي" انطلاقاً من رفضهما ما وصفاه بالابتزاز الحاصل بتخيير اللبنانيين بين العتمة أو السلفة، التي ما هي إلا محاصصة جديدة ستتبعها مساهمات مالية لاحقة وتكرار للفشل في حلّ أزمة الكهرباء بعد سنوات من سوء الإدارة الذي أنتج عتمة شاملة.

ملف الكهرباء شاهد عيان على منظومة الفساد والهدر وسوء الإدارة وضعفها الذي تجسّد بالرضوخ للمصالح السياسية في المرحلة الأخيرة. وليس غريباً ان يكون قد استنزف هذا القطاع الخزينة اللبنانية بنحو يزيد عن 40 مليار دولار، ليشكّل هذا الرقم اكثر من 40% من الدين العام في لبنان فيما يكلّف العجز في الكهرباء موازنة الدولة بين و1.5 و2 مليار دولار سنويا، اواكثرتبعاً لأسعار المحروقات العالمية.

لم تتمكن السلطات المتعاقبة من إيجاد حل مستدام، وبقي لبنان يواجه عجزاً في الإنتاج بفعل تهالك معامله، وتعديات متمادية على شبكة التوزيع وضعفا في الجباية الى ان انعدمت مؤخراً. وهنا تكشف المصادر" للاقتصاد" ان مؤسسة كهرباء لبنان لم تحصّل فواتير الجباية في بعض المناطق منذ تموز 2019 لأسباب غير واضحة، علماً إن هذه الواردات في حال تأمنت بشكل عادل من كافة المناطق بدون اي تمييز لكانت سدّت قسماً من عجز المؤسسة التي استسهلت التوجه الى الخزينة اللبنانية لتأمين حاجاتها ونفقاتها منذ العام 2003.

ولا يخفى ايضاً الهدر الفني على الشبكة المقدّر بنسبة تناهز 15% وبكلفة تقارب 250 مليون دولار،إلى صفقات الفيول، ويقدَّر الهدر فيها بـ150 مليون دولار سنوياً.

وصل مرفق الكهرباء إلى الطريق المسدود بحكم سوء الإدارة والنهج الذي لا يحترم اي قانون أو شفافية، بل يطبّق ممارسات قوامها الضغط والابتزاز.

وهنا بالطبع، لايمكن إغفال الكيديات السياسية التي عصفت في البلاد على منسوب التوّتر العالي لتدفع التقنين الى ذروة قياسية لم يعرفها اي بلد في العالم، رغم سلسلة طويلة من الوعود الواهية.

لقد اصبح التطرق الى موضوع الكهرباء ضرورياً في كل حديث عن ملف الفساد والهدر في لبنان يتناوله المجتمع الدولي الذي يركّز على اعطائه الاولوية في الإصلاحات المربوط تنفيذها بأي برنامج مساعدة خارجية الى لبنان .

المنصّة الإلكترونية مؤقتة؟

وفي سياق الاجراءات غير المفيدة، تم الإعلان مؤخراً عن إطلاق العمل بالمنصّة الالكترونية ، على نحو يتم فيه تسجيل كل عمليات شراء وبيع الدولار عبرها، و تكون المرجع الأساسي للسعر الحقيقي للسوق. وتتيح المنصّة للمصارف كما للصرافين التداول بالدولار بسعر السوق الحقيقي، مع حصر بيع الدولار لفئات محدّدة، بينها المستوردين والصناعيين وبعض الفئات الضيّقة، حسب ما صدر عن المكتب الاعلامي لرئيس الجمهورية.

وطلب مصرف لبنان من المصارف الاشتراك في المنصّة الإلكترونية لعمليات الصرافة المنشأة من مصرف لبنان والتسجيل على التطبيق الإلكتروني العائد لهذه المنصة والالتزام بالشروط التي سيصدرها بهذا الخصوص.

واذ لم تتضح بعد الجوانب التقنية لكيفية تحرّك هذه المنصّة، حيث انه من المفترض أن يتم التداول عبرها بالأوراق النقدية فقط، أي بـ"الكاش"، بمعنى أن يتم بيع وشراء الدولار الكاش وبالليرة الكاش وليس عبر الحسابات المصرفية، وهذا الأمر يرتّب على المصارف شروط محدّدة قد ترفض الالتزام بها، توّقع وزير المال في حكومة تصريف الأعمال الدكتورغازي وزني ان الرقم المرتقب الذي سيصل إليه سعر صرف الليرة أمام الدولار هو 10 آلاف ليرة من خلال هذه المنصّة وهي مؤقتة وظرفية وضرورية، الا إن بعض الخبراء يستبعد أن تحظى بالنجاح والاستمرار. ويتوّقع البعض أن يتوّقف العمل بها، في حال لمس أنها تعمل في اتجاه واحد، أي على خط بيع الدولار وليس الشراء.

بفضل مقاربات خاطئة، شارف مصرف لبنان على استنفاد احتياطاته بسرعة قياسية. وهنا، بعض الخبراء يصفون المشكلة في لبنان بأنها اكبر من اهميته الجيوسياسية. لقد اعتاد على المساعدات الخارجية انطلاقاً من مؤتمرات باريس التي كانت تؤجل المشكلة فقط دون معالجة اسبابها . واذا كنا بحاجة اليوم الى 100ملياردولار للنهوض فإن جلّ ما يمكن الحصول عليه في احسن الأحوال بعد الاتفاق مع الصندوق النقد على برنامج واستعادة الثقة الدولية بلبنان هو مليار او مليارين دولار كحد اقصى الرقم الذي يغطي ميزان المدفوعات اليوم لشهر .

ويبقى الخوف من الوصول الى السيناريو الكارثي وبيع الذهب بفضل تخبّط السياسات الاقتصادية المعتمدة، بعيداً عن اي رؤية علمية تحاكي الوضع المأساوي الذي وصلنا من تهديد للأمن الغذائي والصحي معاً بعدما اصبح الإستشفاء والطبابة حكراً على الأغنياء فقط فيما اصبح محتمّاً موت المريض الفقير في منزله لعدم قدرته على تسديد التكاليف الصحّية بعد تخلّي الدولة عن تحمّل مسؤلياتها ونزع لقب مستشفى الشرق عن لبنان بعدما وصلت المستشفيات الى واقع العمل بنسبة 60% فقط من طاقتها.

في اطار المراجعة السريعة لهذه التطورات الدراماتيكية بشكل يومي، يبدو إن الانهيار اصبح الخيار الوحيد عند السياسيين لابل الهدف المنشود في آذار.

لبنان عند مفترق خطير اليوم فهل من تحرّك خارجي إنقاذي بعد انسداد الأفق الداخلي ؟