كما كان متوقعا اقر ​مجلس النواب​ مبدئيا (بانتظار الاقرار في جلسة نيابية عامة) منح ​سلف​ة خزينة ل​مؤسسة كهرباء لبنان​ بقيمة 300 مليار ليرة، يسددها ​مصرف لبنان​ عمليا بالعملة الاميركية بما يساوي 200 مليون دولار، ستصرف حتما من احتياطي البنك المركزي، وفعليا من ودائع الناس.

رغم الكلام السياسي الكثير الذي رافق هذه الخطوة فان المؤكد ان مختلف احزاب السلطة والمعارضة لا تملك، ولن تملك في المستقبل المنظور، اي قدرة على وقف النزيف ال​مالي​ على قطاع الكهرباء، فهو قطاع مأزوم للغاية، وعصي على الإصلاح بالأدوات القديمة، وبالأساليب المعهودة من تسكيج وترقيع، وفي ظل نظام سياسي – مالي – ​مافيا​وي يعتاش على الأزمات.

ازمة اعتمادات الفيول حلت مبدئيا لشهرين، والمؤكد انها ستكرر لاحقا، بسبب عدم وجود مجلس وزراء يضع ​موازنة​ جديدة،وحتى لو شكل الرئيس المكلف ​سعد الحريري​ حكومة اليوم فانها لن تكون قادرة على وضع هكذا موازنة قبل ثلاثة أشهر. وفي كل الاحوال فان فرضية قيام حكومة اىن مستبعدة جدا. لذلك ستستمر حكومة تصريف الأعمال بطلب سلف خزينة، وسيجد مجلس النواب نفسه مضطرا للموافقة على منحها، لان لا خيار آخر سوى العتمة. وهذا لا يبرىء المجلس ويجعله في موقع المضطر المسكين، فالمجلس النيابي عموما هو أصل البلاء في الكهرباء وغيرها، من خلال الحكومات التي انبثقت عنه، وامتنع بالتالي عن مراقبتها ومحاسبتها.

في كل الأحوال، وقبل الوصول الى البحث في سلفة جديدة بعد شهرين، فإن السلفة الحالية ذات المئتي مليون دولار لن تحل المشكلة، ومن غير المستبعد أن ندخل في العتمة الشاملة او الجزئية بنسبة 80 في المئة قريبا جدا، لان مؤسسة كهرباء لبنان عندما طلبت سلفة مليار دولار كانت تعتزم تسديد 180 مليون منها للبواخر التركية المستأجرة، ومثلها لمقدمي الخدمات، ولكن مجلس النواب قطع الطرق عليها.ولذلك فإن توقف البواخر عن العمل والإنتاج هو مسألة وقت قصير (اسابيع او ايام )، وبالتالي ستنقص ​الطاقة​ الكهربائية بنسبة 40%. ومن جهة ثانية، فإن مقدمي الخدمات الذين وصلوا الى مرحلة الافلاس بسبب عدم قبض مستحقاتهم من كهرباء لبنان لقاء خدمات الصيانة والتصليح السابقة، قد يتوقفون أيضا عن العمل، فلا يتم تصليح اي عطل جديد إذا لم تسدد هذه المستحقات.

بالإضافة الى ذلك فإن أزمة التعتيم الاخيرة طرحت إشكاليات عدة:

أولاً: لا احد يعرف سوى الحاكم ​رياض سلامة​ حقيقة ​الوضع المالي​ للبنك المركزي ، ولا نعلم اذا كان وزير المال غازي وزني استند في حديثه عن 16 مليار دولار الى أرقام رسمية أم مجرد تقديرات. وفي كل الاحوال، لن نعرف ما إذا كان الإنفاق على الكهرباء سيتم في الآتي من الأيام من الاحتياطي الإلزامي الممنوع مسه، ولكن تحت عنوان الضرورات تبيح المحظورات فإن كل شيء ممكن في لبنان، وحتى إنفاق آخر سنت في البنك المركزي. وهذا يعني إفلاس ​الدولة اللبنانية​.

ثانياً: لا نعلم اذا تحركت وزارة الطاقة قبل الازمة الحالية، او أنها ستتحرك بعد ذلك،من اجل ايجاد بديل ارخص لاستيراد الفيول باهظ الثمن،وفق العقود القديمة. ​أسعار النفط​ شهدت هبوطا حادا للغاية منذ بدء ازمة كورونا عالميا، ووصل سعر برميل النفط الى ​دولارات​ قليلة. فهل استفدنا من ذلك بتخزين كميات كبيرة توجد لها الخزانات بالفعل؟ أما اليوم فقد تبدلت الأحوال وعاود ​سعر النفط​ ليبلغ مستويات عالية جدا. وهذا يعني اننا خسرنا فرصة التوفير،وسندفع عاجلا كلفة ارتفاع الأسعار العالمية.

ثالثاً: عندما هدد وزير الطاقة بالعتمة الشاملة آخر الشهر الجاري، سارع نقيب اصحاب المولدات عبدو سعادة الى فعل الامر نفسه، وهدد بالتوقف عن العمل في التاريخ نفسه، بذريعة أن الضريبة المفروضة على المولدات الخاصة باتت مرهقة ، وهي في الواقع لا تتجاوز مئة مليار ليرة، في قطاع ينتج 1500 ميغاوات سنويا وتبلغ فاتورته الاجمالية ملياري دولار.

التزامن بين التهديدين الرسمي والخاص بالعتمة ليس مصادفة وهو بالتأكيد ليس بريئا ، وقد سبق وشرحنا مرارا في موقع الاقتصاد العلاقة العضوية بين التواطوء الرسمي والتآمر الخاص ووجود مافيا متشعبة تنطلق من داخل وزارات الدولة وتمتد الى المناطق والاحياء عبر لصوص ​التيار الكهربائي​ وبيعه بالسعر الباهظ.

ما يجري الآن تلخصه المعادلة التالية: تتوقف معامل ​انتاج الكهرباء​ بسبب عدم توفر الفيول أويل عند الدولة، أو بسبب ارتفاع سعره بشكل هائل، فتضطر كهرباء لبنان الى تقليل الانتاج وزيادة ساعات التقنين، وفي المقابل يضغط اصحاب المولدات كي يستمر الدعم على المازوت في وقت يتزايد الحديث عن رفع الدعم على ​البنزين​ او ترشيده، وتصبح المولدات هي البديل الوحيد لتوفير التيار الكهربائي للمواطنين ولكن بشروط أقسى من السابق. وقد استغلت مافيا المولدات الازمة الاخيرة وارتفاع سعر ​الدولار​ لتلغي القيود التي كانت وزارة الاقتصاد قد فرضتها عليها في التسعير من خلال تركيب العدادات، وبات من النادر ان تجد هذه العدادات في الكثير من المناطق.

نسمع كثيرا هذه الأيام نغمة ان تشكيل حكومة جديدة كفيل بوقف الانهيار وبدء اقتراح حلول للازمات المستعصية وابرزها قطاع الكهرباء.وهذا الكلام هو تفاؤل مفرط وساذج، اذ لا يمكن لطبقة سياسية تسببت بهذه الازمات ان تجد حلا لها، لأنها جزء من المشكلة. والخلاصة ان قصة ابريق الزيت في الكهرباء مستمرة،ولا افق لحلها، ويمكن القول بكل ثقة، ان هذه الازمة هي ازمة النظام السياسي كله، ويستحيل ان تجد مشكلة الكهرباء حلا الا بسقوط هذه الطبقة السياسية... وبانتظار ذلك يستمر الترقيع على ضوء الشموع.