لطالما كانت ​الحروب​ و​الكوارث الطبيعية​ مناسبة للبعض كي يحققوا الثراء ويجمعوا ​الثروات​ الفاحشة بطرق ملتوية وغير مشروعة، وعبارة اثرياء الحرب معروفة تاريخيا، فهم الفئة التي تتولى الأعمال التجارية التي تتطلبها النزاعات العسكرية، او التي تترافق معها، وليس المقصود صناعة و​تجارة​ الاسلحة فقط، وانما كل السلع والخدمات التي يتصاعد الطلب عليها ايام الحروب.

في الحرب على "كورونا" لا يختلف الامر كثيرا، فاذا كانت الجائحة اسقطت قطاعات ​اقتصاد​ية معينة، فإنها في المقابل انعشت أخرى، ولكن إذا كان من الطبيعي ازدهار بعض القطاعات التجارية المرتبطة بالصحة، فما هو غير طبيعي ان تتولى ​السوق السوداء​، ادارة هذه القطاعات المنتعشة.

في الدول المتحضرة، عادة ما تنشأ في الحروب قطاعات جديدة تتولى تجارة الموت وكل لوازمها، وهذا ما يشكل جزءا من اقتصاد الحرب. وفي زمن "كورونا" تولت شركات طبية زمام الامور، وادارت معركة تأمين كل المستلزمات لمواجهة الجائحة، بدءا من فحوض الـ pcr ، مرورا بمستحضرات وادوات التعقيم، وصولا الى ​الادوية​ والتجهيزات والمستلزمات الطبية. أما بالنسبة للاستشفاء والطبابة فغالبا ما فرضت الحكومات الضوابط منعا لاي استغلال او احتكار.

أما في ​لبنان​، وفي غياب شبه تام للدولة نشأت سوق سوداء هجينة، جمعت في عصابة واحدة: هيئات رسمية، مستشفيات، مختبرات، ​اطباء​، صيدليات وشركات ​استيراد​ ادوية ومستلزمات طبية، وتجار معقمات، وبائعين بالمفرق. وتولت هذه العصابة كل العملية الصحية في هذا الزمن الصعب.

نقول انها سوق هجينة لأنه لا يمكن التفريق بين ما شرعي او قانوني وبين ما هو أسود غير شرعي وغير قانوني، فالمستشفى مثلا، تعمل في السوق الاستشفائي القانوني، ولكن عندما تفرض تعرفات مبالغ بها ومضخمة، على مريض ما مقابل الخدمات الطبية، فإنها تصبح بشكل غير مباشر وغير صريح جزءا من السوق السوداء. وكذلك شركة الادوية التي تبيع بشكل نظامي عادة،وهي قانونية، فإنها تتحول الى سوداء عندما تحجب ال​دواء​ لكي ترفع سعره، او حين ترفض تسليمه الى الصيدليات لتبيعه للتجار في السوق السوداء اياها.

ومن جهة أخرى عندما يكون فحص الـ "PCR" مجانيا في الكثير من الدول، ويتحول الى تجارة رابحة في لبنان بسبب سعره المرتفع، تكون وزارة الصحة او اي هيئة طبية رسمية اخرى شريكة في هذه التجارة السوداء.ونحن لا نقول بان الفحص يجب ان يكون مجانيا، فقد تستطيع الدولة تسديد ثمنه او لا تستطيع، ولكن ما الذي يبرر ارتفاع سعره بشكل كبير مقارنة بدول اخرى تتقاضى ثمنه.

ثمة أمثلة كثيرة على أن جائحة "كورونا" شكلت تجارة رابحة للغاية في لبنان، بسبب غياب الدولة ، وانعدام الرقابة على كل القطاع الصحي، ومن فحوصات الـ "PCR" نبدأ.

الفحوصات

حتى اليوم سجل لبنان نحو 400 ألف اصابة بفيروس "كورونا"، وتشير الدراسات الى انه مقابل كل فحص ايجابي تم تسجيله ثمة اربعة اخرى سلبية لم تسجل، وهذا يوصلنا الى ان العدد التقريبي لفحوصات "PCR" في لبنان خلال عام قد تصل الى مليوني فحص بكلفة تقارب المئتي مليون دولار اذا احتسبنا سعر الفحص مئة دولار على أساس سعر الصرف الرسمي 1500 ليرة .

هذه تجارة رابحة للمختبرات التي تجري الفحوص، ولا عجب أن تنتشر الظاهرة ويتكاثر عدد "المتطوعين" لإجراء الفحوص الى درجة بتنا نشاهد مواقف ​السيارات​ تتحول الى مختبرات ينصب فيها شادر وتعلوه لافتة ترويجية على طريقة دكاكين البقالة في الأحياء الشعبية العتيقة.

بشكل متأخر اصدرت وزارة الصحة تسعيرة جديدة لهذا الفحص وصارت 100 الف ليرة بدلا من 150 الفا، في حين أن بعض الجمعيات المدنية، تتقاضى سبعين الف ليرة للفحص.

هذا التفاوت الكبير في ال​اسعار​ يطرح سؤالا عن وجود تواطؤ رسمي مع بعض ​القطاع الخاص​ الطبي لرعاية سوق سوداء للفحوصات.

الاستشفاء

بالنسبة لكلفة العناية بالمرضى لا يوجد تقديرات رسمية حتى الآن. وكان معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي قدّر الكلفة الإضافية لعلاج المصابين بفيروس "كورونا" في الاشهر الستة الاولى من انتشار الوباء اي منذ آذار وحتى تموز 2020 بحسب معدل انتشار متدن، بنحو ٤٣ مليون دولار. ولكن مع تفشي الفيروس بشكل كبير، منذ تموز 2020 وحتى اليوم، تضاعفت الكلفة ثلاث مرات على الأقل.

هذه الكلفة سددت جزء منها وزارة الصحة من خلال قرض البنك الدولي، ولكن نسبة كبيرة كانت من جيوب المواطنين، فالمعروف أن قطاع علاج "كورونا" ازدهر كثيرا، وصار له سوق سوداء ككل شيء في لبنان. المستشفيات كانت ولا تزال ترفض استقبال المريض على حساب وزارة الصحة او الضمان او غيره اذا لم يسدد مبلغا نقديا فور الدخول، يتراوح بين 10 و30 مليون ليرة ، وغالبا ما تستولي عليه المستشفيات، لتعود وتفوتر كلفة استشفاء مريض "كورونا" على الجهات الضامنة.اما معاينات الاطباء التي هي في الأصل تتجاوز تعرفات الصناديق الضامنة ، فقد ارتفعت أكثر وبشكل ​جنوني​. ولنذكر أنه حتى اليوم فإن تعرفة معاينة ال​طبيب​ العام في الضمان هي 30 ألف ليرة، وطبيب الاختصاص 40 ألف ليرة، علما ان الاطباء كانوا يتقاضون 75 الف ليرة على الأقل قبل "كورونا"، أما بعد الجائحة فحلقت اسعار المعاينات لتصل الى 250 الف ليرة.

التعقيم

قطاع آخر ازدهر في زمن "كورونا" هو قطاع مواد التعقيم والتطهير والكمامات وموازين الحرارة والتي كانت تقدر مبعاتها السنوية بـ 50 مليون دولار، ولا أحد يعرف أي سقف بلغته، وقد ظهرت تقديرات غير رسمية في المرحلة الاولى من انتشار الوباء، اي في الفصل الأول من العام 2020، تشير الى ان الطلب على هذه السلع تضاعف أربعين مرة، ثم انخفضت النسبة مع اعتياد الناس على وجود الوباء بينهم، ولكن مع نهاية العام 2020 وبداية العام الحالي 2021، مع الموجة الثالثة من التفشي، وهي الاخطر بالتأكيد، حيث وصلت الارقام اليومية القصوى الى 7 الاف اصابة، فان سوق مواد التعقيم والتطهير والكمامات وموازين الحرارة عاد وانطلق بسرعة جنونية .

واذا اكتفينا بما تيسر من تقديرات، يمكن القول إن ما تكبده اللبنانيون والمقيمون على هذه المواد يناهز الملياري دولار خلال العام 2020 ومطلع العام 2021 .فهل استفادت الصناعة اللبنانية من ذلك بغياب الأرقام الرسمية؟

هذا ليس مؤكدا في بلد مستباح على التهريب وعلى الغش في التصنيع، وقد شاهدنا تكرار عمليات ضبط لمنتجات مغشوشة مثل السبيرتو خصوصا.عدا عن اسعار الكمامات العادية التي كانت في البداية خيالية تتراوح بين ألف وخمسة آلاف ليرة للكمامة ، وهي اليوم 300 ليرة فقط.

الدواء والأوكسجين

يشهد البلد منذ أكثر من سنة، على وقع الانهيار الاقتصادي والمالي المتمادي، نقصاً كبيراً في ​الأدوية​ المستوردة بغالبيتها من الخارج، سواء تلك التي تستخدم لعلاج مرضى كوفيد-19 أو الأمراض المزمنة وصولاً إلى مسكنات الألم العادية وحتى الفيتامينات.

ولكن مع ارتفاع عدد الإصابات بفيروس "كورونا"، ظهرت طوابير انتظار طويلة أمام الصيدليات. ازدهرت سوق سوداء للدواء مستفيدة من حاجات الناس، ومن غياب الرقابة على بيع الادوية سواء كانت مدعومة او لا. ووصل فيها سعر بعض الأدوية إلى معدلات خيالية.

ومن الامثلة على ​ارتفاع الاسعار​ دواء "إيفرمكتين" الذي بلغ سعر بيعه في السوق السوداء 300 ألف ليرة، أي ما يعادل 35 دولاراً وفق سعر الصرف غير الرسمي، فيما تباع العلبة حالياً، بعدما استورده أحد الوكلاء إثر نيله موافقة وزارة الصحة بنحو 8 آلاف ليرة.

والأمر نفسه ينطبق على كل انواع الفيتامينات الضرورية خلال الإصابة بـ "كورونا" مثل ​الزنك​ وفيتامين C وD، بالاضافة الى ادوية السيلان، والبنادول و​الأسبرين​.

وانقطعت كذلك أجهزة الأكسجين التي تستخدم في ​المنازل​ بسبب تهافت الناس على تخزينها، ما حرم مرضى من الاستفادة منها.

وانتشرت في الأسواق وفق نقابة مستوردي المستلزمات الطبية أجهزة مزيفة مجهولة المصدر بمبالغ خيالية.

في السابق كانت عبوة الأوكسيجين سعة 10 ليترات تباع بنحو 50 دولاراً أو بمئة كحد أقصى، حسب مادة التصنيع. لكن سعرها في زمن الكورونا بات يتراوح بين 250 والـ 450 دولار. وبينما كانت كلفة التعبئة نحو 15 ألف ليرة، باتت اليوم نحو خمسين.

أما ماكينات التنفس التي كان سعرها يتراوح بين 400 و1200 دولار، فباتت اليوم تتراوح بين 600 و2000 دولار، وعلى سعر صرف السوق.

وهذا يسري على آلة قياس الأوكسيجين بالدم، التي توضع في إصبع اليد وحجمها نحو ثلاث سنتيمترات. فسعرها في ​الصين​ يصل كحد أقصى إلى نحو 3 ​دولارات​، وباتت تباع في الصيدليات بلبنان بنحو 250 ألف ليرة. وفقدت من الأسواق، بسبب ارتفاع الطلب عليها جراء هلع المواطنين وشرائها للاستعمال أو للتخزين لاستخدامها عند الحاجة.

الإنسان سلعة

هذه بعض الامثلة على فلتان القطاع التجاري الصحي في لبنان، وذلك نتيجة تضافر عاملين ، غياب الرقابة والادارة الرسميتين، وجشع وتوحش بعض القطاع الخاص.

في اي دولة من الدول حيث النظام السياسي يعتبر المواطن مجرد رقم أو سلعة تباع وتشترى، تكون الحياة والصحة مجرد وسيلة اخرى للكسب، اي سوق آخر يضاف إلى أسواق عديدة . وهذا حال العالم عموما، وقد سقطت معظم الدول في امتحان "كورونا" ولم تنجح في تأمين ​الرعاية الصحية​ اللازمة من دون تكاليف إضافية تتجاوز قدرات المواطن المالية. ولكن الإخفاق لم يكن معمما بالنسبة نفسها، فثمة دول كثيرة قدمت لمواطنيها الكثير من الرعاية بأسعار معقولة تمكن من تحملها.

في لبنان وفي غياب دولة نحاسبها، وحيث تسود شريعة الغاب في كل المجالات، فقد بينت جائحة "كورونا" مرة أخرى أن القيمين على السلطة يعتبرون المواطن مجرد سلعة.. رخيصة جدا.