يغرق لبنان منذ ايام في العتمة الجزئية على طريق العتمة الكاملة حسب وعود المسؤولين المعنيين، وفي مقدمهم وزير ​الطاقة​ ريمون غجر.

العتمة الحالية مرشحة للتمدد اياما اضافية حسب آخر بيان لمؤسسة ​كهرباء لبنان​ التي اكدت ان السبب لعدم فتح اعتمادات ثمنا لباخرتي فيول اويل موجودتين حاليا قبالة الشاطىء اللبناني. وهذه الظاهرة الشاذة سبق وتكررت مرات عدة بوجود ​المحروقات​ المستوردة لمعامل الانتاج ولكن تفريغها يتأخر اياما واسابيع بسبب مشكلة ​الاعتمادات​.

السؤال الذي يطرحه المواطن العادي: الا يمكن حل هذه المشكلة واستباق وقوعها من خلال تأمين الاعتمادات سلفا،واذا كان الواقع المالي المأزوم يعيق هكذا خطوة، أليس من المفترض ان تعالج الحكومة المسألة جذريا مع ​مصرف لبنان​؟

الواقع ان ثمة عداوة بين الحكومة والبنك المركزي والتواصل بينهما شبه مقطوع،وهذا احد اسباب ترك مؤسسة الكهرباء تتخبط. الحكومة مستقيلة قانونيا وهي مستقيلة عمليا من تصريف الاعمال ايضا،وهذا تعبير عن الازمة السياسية المستحكمة بالبلد.وهنا يجدر بنا العودة الى اسباب ​استقالة الحكومة​ والتي لم تكن بسبب انفجار 4 آب،كما يقال، بل بسبب سحب الغطاء السياسي عنها من قبل عرابيها،لاسباب سياسية بحتة لا علاقة لها بمحاسبة المجرمين والمقصرين والمهملين والفاسدين الذي تسببوا بكارثة المرفأ. والدليل على ذلك انه عندما وصلت موس ​المحاسبة​ القضائية الى رقبة السياسيين انقض الجميع على التحقيق العدلي.

واليوم يتخذ مصرف لبنان من الكهرباء رهينة التجاذب مع حكومة ​حسان دياب​ اذ يتأخر متعمدا في فتح الاعتمادات ليضغط على الحكومة للتعجيل في خطة رفع الدعم او ترشيده،وعذره في ذلك شح الدولارات.

وجود حكومة مستقيلة وعاجزة ومن دون غطاء سياسي– طائفي هو من صنع منظومة سياسيا– مالية فاسدة تقدم الفرصة الذهبية لحيتان و​مافيا​ت النهب والسلب، وخصوصا في قطاعي المحروقات والكهرباء.

في هذا الاطار يبرز دور جهات معينة داخل الدولة تعرقل تسهيل عملية فتح الاعتمادات وتأخير تفريغ الفيول،ولكن في المقابل تسهل الى اقصى حد ​استيراد​ المازوت بكميات هائلة لصالح الشركات الخاصة التي تزود مافيا المولدات والتي تؤمن حوالى نصف حاجة لبنان من ​التيار الكهربائي​.وقد سبق وذكرنا في مقالات عدة حجم هذا السوق بمليارات الدولارات سنويا. واللصوص هنا لا يكتفون بما يكسبونه سنويا من عملية صارت روتينية، بل يعملون لزيادة الارباح بزيادة ايام العتمة والاعتماد على المولدات الخاصة.

اكثر من ذلك فان ال​تجارة​ السوداء بالمحروقات مقبلة على ازدهار كبير،وتستعد المافيا لجني ارباح مضاعفة بشكل هائل،مع بدء "ترشيد" الدعم،كما يسمونه،وهو في الحقيقة اطلاق يد مستوردي المحروقات للتسعير كما يشاؤون،لان دعم الـتسعين في المئة الذي يؤمنه مصرف لبنان حاليا يضبط الى حد كبير اسعار ​البنزين​ والمازوت، فاذا ما رفع الدعم يصبح الامر برمته بعهدة ​التجار​، كما يحصل في سائر السلع غير المدعومة الآن.

الحديث عن ترشيد الدعم يتركز حاليا على البنزين بشكل رئيسي،ويعني رفع الدعم عن هذه المادة ارتفاعا فوريا لسعر ​صفيحة البنزين​ (وفق الاسعار العالمية الحالية) الى تسعين الف ليرة، ويتم اقتراح ان يستمر الدعم على المازوت على حاله، لكي تستطيع المولدات الخاصة الاستمرار في العمل وتأمين التيار الكهربائي للناس.وهذا يعني بكل بساطة تدفيع المواطنين على المحطات السعر الباهظ للبنزين، وادامة قطاع المولدات المتوقع ان يزدهر اكثر اذا استمرت حالة الكهرباء على ما هي،وهذا هو المرجح،ولكن المواطن سيدفع في نهاية المطاف ​سعر المازوت​ المدعوم لان الدعم يستنزف ​احتياطات​ مصرف لبنان ويغرق البلد اكثر في ازمته المالية.

ترشيد الدعم،اي ابقاء المازوت مدعوما موقت،وسيأتي وقت يعجز فيه مصرف لبنان عن دعم اي شيء.وهنا ينبغي التنبه لما سيجري في قطاع الكهرباء، فهل ستتخذ الدولة اجراءات حاسمة لمنع انقطاع الفيول اويل بحجة الاعتمادات، ما يعني ساعات تقنين اكثر، وهل ستعمل على تامين بدائل دائمة للعقد المنتهي مع سوناطراك، على غرار العقد الموقع مع ​العراق​ لاستيراد كميات محددة لصالح معامل ​انتاج الكهرباء​؟

التجارب السابقة لا تشجع على التفاؤل بل بالعكس،فمن يتآمر لاطالة ساعات التقنين يوميا ليضاعف ارباحه من تجارة المازوت، لن يتوانى عن تعطيل اي حلول،وهكذا تصبح المولدات الخاصة المصدر شبه الوحيد للتيار الكهربائي، وبالسعر الحر والمتفلت.

على خط مواز، تتفاقم ازمة أخرى في قطاع الكهرباء، اذ تعجز مؤسسة كهرباء لبنان عن تسديد الفواتير المستحقة لشركات مقدمي الخدمات من اجل الصيانة، بسبب امتناع مصرف لبنان عن تغطية المبالغ المطلوبة بالدولار المدعوم، وقد رفعت هذه الشركات صوتها مرارا لتؤكد انها ستصل الى مرحلة التوقف عن ​اعمال الصيانة​ وتصليح الاعطال الطارئة،وقد بدأت بوادر هذه الازمة تطل مع الايام ​العاصفة​ الاخيرة التي ضربت لبنان، اذا انقطع التيار عن مناطق واسعة في البلد بسبب عدم القدرة على التصليح.

كذلك تصيب مشكلة عدم توفر قطع الغيار معامل الانتاج ايضا بالاضافة الى الشبكة التوزيع، فقد انخفض إنتاج معملي ​الجية​ والزوق الجديدين بسبب عدم توفر كل معدّات الصيانة، ما تسبب بخسارة حوالى 300 ميغاوات،تضاف الى نقص آخر في انتاج البواخر التركية، ليصير حجم الانتاج حوالى 1000 ميغاوات في حين ان البلد يحتاج الى 3000 ميغاوات.

لمعالجة هذه المشكلة عقدت سلسلة اجتماعات في السراي ادت الى اتفاق على أن يؤمن المركزي الدولارات المطلوبة لمقدمي الخدمات وكذلك للشركات المكلفة بصيانة معامل الكهرباء،ولكن التنفيذ تأخر، وهو مرشح لان يطول ايضا وايضا.

وهذا أيضا سبب آخر من اسباب ازدهار ​السوق السوداء​ للكهرباء. فقد صار لهذه السوق حصة وازنة من الانتاج تقدر بثلثي حاجة لبنان .

قطاع الكهرباء مأزوم منذ عقود، وهو بالكاد كان يعمل قبل ​الازمة المالية​ الحالية، وهو اليوم الضحية الاولى للانهيار،ولكن سقوطه لن يكون عاديا كالقطاعات الاخرى، بل سيكون مدويا مزلزلا ويعادل سقوط الدولة كلها.

قيل ان الوزير غجر قصد أحد الرؤساء ليطلب منه التدخل من اجل اقرار سلفة خزينة اضافية لكهرباء لبنان كي تتمكن من شراء الفيول اويل،وخصوصا مع الارتفاع العالمي المضطرد لاسعار النفط، محذرا من ان الحل مطلوب قبل شهر نيسان والا طارت الكهرباء، فاجابه الرئيس: من دون تشكيل حكومة قبل نيسان فان البلد كله سيطير.