هل صحيح انه نتيجة عمق الأزمة السياسية، وتأثيراتها النقدية، إضافةً إلى استمرار تهريب ​الدولار​، والمواد المستوردة والمدعومة من ​مصرف لبنان​، فقدَ الأخير قدرته على التدّخل في السوق للجم انفلات ​سعر صرف الدولار​، وبات محصوراً في التخفيف من الآثار السلبية عن المواطن من جهة، ومحاولة الحصول على ​العملات​ الأجنبية، ومنع خروجها من لبنان من جهة أخرى؟

لاشك أنه لولا وجود سوق سوداء "محمية" من بعض القوى النافذة، لشهدت السوق 4 و5 أسعار للدولار. وبالتأكيد، لم يكن هناك ما يُسّمى بالـ "لولار" المستجد الذي يشير إلى الودائع بالدولار في ​المصارف​ الخاصة.

وفي غضون ذلك، فإن هناك من يرى أن مصطلح الـ "لولار" بدأ بسبّب اعتماد عملية الأثر المُضاعف لدى مصارف خاصة عدة، تسعى إلى استقطاب الدولارات من الخارج وتتم مضاعفتها رقمياً بحيث تصبح أموالاً افتراضية، ولا توجد مقابلها نسبة كافية من العملة الورقية إذا أُريد استبدالها، الأمر الذي تسبب بفقدان قيمة الودائع بالدولار لدى المصارف.

لاشك أن القيود على الأموال المنقولة بما فيها الودائع بالعملات الأجنبية في المصارف، تؤدي إلى فارق بين قيمة الموجودات في الدولة وخارج الدولة، فما يُسمى بالـ "لولار"، أو "الدولار اللبناني"، هو نتيجة طبيعية لتلك القيود. هذا الأمر يحصل في لبنان بشكل غير قانوني يؤدي إلى عشوائية في النظام المالي، والمصرفي ويؤدي إلى التشوّهات التي نراها في سعر صرف الليرة في الأسواق.

أين هي القوانين من تعدّد سعر صرف الدولار في لبنان (السعر الرسمي- سعر المنصة والسوق السوداء)؟ وما هو مصير تطبيق تسديد ال​قروض​ بالعملات الأجنبية؟

على من تقع مسؤولية التقصير في توحيد سعر الصرف؟

وفق دراسة لمؤسسة "جوستيسيا Justicia" الحقوقية برئاسة الدكتور بول مرقص: ليست أول أزمة مالية ونقدية يمر بها لبنان، فقد شهد سلسلة من الأزمات المماثلة كانت آخرها سنة ١٩٨٨ حين تدهور سعر صرف الدولار بالليرة مما ترك بلبلة في الوضعين الإقتصادي والقانوني، وأدى إلى حصول إختلال في التوازن العقدي.

و لايوجد في لبنان قوانين صرف ملزمة، فالقاعدة هي حرية الصرف وهذا ما نص عليه المرسوم رقم ١٣٥٣٢ تاريخ ٥/١١/١٩٤٨. أما تحديد سعر قانوني للدولار، وهو ما ورد في المرسوم ١/٤٨٠٠ تاريخ ٣٠/١٢/١٩٦٤ تطبيقاً للمادة ٢٢٩ من قانون النقد والتسليف، فما هو إلا سعر يُستخدم في عملية حساب العناصر الذهبية لنقد الدولة من جهة ولحساب الحقوق والضرائب الجمركية التي تقبضها الدولة على القيم المبرمة بالعملة الأجنبية.

ووفق تحليله لمضمون المادة /٣٠١/ من قانون الموجبات والعقود " لم يحدد النص أي جزاء للإشتراط في العقد بأن يكون الإيفاء بغير العملة الوطنية". وهذا الأمر يؤكّد عدم إمكانية بطلان العقود المبرمة بالعملة الأجنبية، انما الجدير بالذكر أن العملة اللبنانية هي دائماً عملة الإيفاء الإلزامية ولا يمكن رفض التعامل بها تحت طائلة توقيع العقوبات الجزائية بحق كل من يرفضها "كعملة ايفاء".

باي عملة تسديد القروض؟

من جديد يطرح السؤال التالي: كيف لمدين بقرض محدد بعملة أجنبية أن يقوم بتسديده؟ هل يكون ذلك بالعملة الأجنبية حصراً؟ أم بالعملة الوطنية؟ وفي حال الإيجاب، وفقاً لأي سعر صرف يتم الإيفاء؟ أهو سعرالصرف وقت حصول التعاقد أم وقت حصول الإيفاء الفعلي؟ ومن يحدد هذا السعر؟

الدراسة تسلّط الضوء على القرار الوسيط رقم ١٣٢٦٠ تاريخ ٢٦/٨/٢٠٢٠ المتعلق بتعديل القرار الأساسي رقم ٧٧٧٦ تاريخ ٢١/٢/٢٠٠١ الذي ألزم المصارف والمؤسسات المالية قبول تسديد العملاء الاقساط أو الدفعات المستحقة بالعملات الأجنبية والناتجة عن قروض ​التجزئة​، سيما القروض الشخصية، وذلك ب​الليرة اللبنانية​ على أساس سعر /١٥٠٧،٥/ ليرة لبنانية للدولار الأميركي الواحد وفقاً للشروط المبينة في القرار الوسيط المشار إليه.

واللافت انه في الفقرة الأخيرة من القرار المذكور بقيت القروض التجارية خاضعة لشروط عقد القرض الموّقع بين المصرف والعميل سيما، لجهة الإلتزام بالتسديد بعملة القرض، مما يبقي جزءاً من الإشكاليات المطروحة أعلاه دون حل عادل، وترك تباين في وجهات النظر.

بالنسبة للنصوص القانونية: لابد من التذكير بالقاعدة التي تحكم العقود كافة المعروفة بمبدأ "القوة الملزمة للعقد"، ومفاده أن العقد هو شرعة المتعاقدين يلزمهم كما يقيّد القاضي خلال تفسيره لبنوده.

تضيف الدراسة : ينصّ قانون الموجبات والعقود على هذا المبدأ في المادة /٢٢١/ منه :" إن العقود المنشأة على الوجه القانوني تلزم المتعاقدين. ويجب أن تفهم، تفسر وتنفذ وفقاً لحسن النية، الإنصاف والعرف".

يستفاد من نص المادة المذكورة أن الإلتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح، وغير المخالفة للنظام العام، تقوم مقام القانون بالنسبة لأطرافها.

إن مبدأ " القوة الملزمة للعقد" المنصوص عليه في المادة /٢٢١/ م.ع. يفتح المجال أمام المصرف، الذي التزم بتقديم قروض وتسهيلات مصرفية لعملائه بالدولار الأميركي، بعدم قبول الإيفاء بأي عملة أخرى سوى العملة المذكورة.

وبالتالي، استناداً لهذا المبدأ تحديداً، إن إيداع العملاء المبلغ المتوجب عليهم بالليرة اللبنانية لدى الكاتب العدل يكون إيداعاً غير قانوني.

يستند رفض المصرف للايداعات سالف الذكر، إلى ما نصت عليه كل من المادتين /٢٤٩/ و/٢٩٩/ م.ع.، ويستفاد منهما أن الإلتزام الذي يجب على المدين ايفاؤه انما هو الشيء المتفق عليه في العقد. بالتالي، إن القرض المحدد بالدولار الأميركي يجب أن يستوفى بالعملة عينها وذلك إحتراماً لإرادة المتعاقدين المحددة مسبقاً في العقد.

علاوةً على ذلك، حرص القانون اللبناني على تأكيد هذه القاعدة من خلال المادة /٧٥٤/ م.ع. التي نصت على ما يلي :" قرض الإستهلاك عقد بمقتضاه يسلم أحد الفريقين إلى الفريق الآخر نقداً أو غيرها من المثليات بشرط أن يرد إليه المقترض في الأجل المتفق عليه مقداراً يماثلها نوعاً وصفةً."

يفهم من مجمل النصوص المذكورة أعلاه، أن للدائن حق مكتسب بأن يستوفي من المدين ما يماثل الصفة التي تنطوي عليها النقود بتاريخ نشوء الإلتزام، أي ما يماثل القيمة المتمثلة بالقوة الشرائية التي يعطيها الأفراد للنقد، فالقوة الشرائية هي الصفة الجوهرية للنقد وتكون المقياس لتحديد كمية الوحدات النقدية المستحقة للدائن بتاريخ الإيفاء.

وفي الدراسة نفسها، رأي للنقيب السابق للمحامين في بيروت مارسال سيوفي يعتبر فيه ان اشتراط الإيفاء بالعملة الأجنبية يفترض أن يكون الإلتزام محرراً ومحدداً أيضاً بهذه العملة عند إنشاء العقد، ما لم يكن "التداول الإجباري" مقرراً للعملة الوطنية فلا يعود جائزاً التعامل إلا بالعملة عينها معتبراً أن "التداول الإجباري" بالعملة الوطنية يفرض على الدائنين قبض ديونهم بالنقد الورقي الرسمي دون سواه كونه تدبير يتعلق بالنظام العام لأنه متخذ محافظةً على نقد البلاد ودعماً للثقة به، مستنداً بذلك إلى نص المادة /٣٠١/ من قانون الموجبات والعقود .

إستناداً إلى ما تقدم، يخلص النقيب السيوفي إلى اعتبار الإيفاء الحاصل بالعملة الأجنبية هو أمر محظّر، مما يجعل التعهد المحرر والمحدد بهذه العملة عند إنشاء العقد أمراً ممنوعاً أيضاً. انما أقر بقانونية البنود المسماة بالقيم المعادلة للعملة الأجنبية (بنود "قيمة العملة الأجنبية") لأن المشترع لو أراد منعها لكان نص عليها صراحةً في نصوصه كما فعل بالنسبة إلى العملة الأجنبية في المادة /٣٠١/ من قانون الموجبات والعقود.

وعليه، ينبغي دائماً تحرير العقود والإلتزامات بالعملة اللبنانية وايفاؤها يجري بهذه العملة دون سواها، إلا أنه يمكن اعتماد أي عملة أجنبية أو مؤشر إقتصادي في تحديد الثمن. فيقال مثلاً أن الثمن محدد بالعملة اللبنانية ويدفع بهذه العملة ولكن على أساس مبلغ من الدولارات.

إن الصفة الجوهرية للنقد تكمن في قوّته الشرائية، وهي المقياس الوحيد لتحديد كمية الوحدات النقدية المستحقة للدائن بتاريخ الإيفاء.

و من المعلوم أن لبنان يتمتع بنظام إقتصادي حر، بحسب الفقرة (و) من مقدمة الدستور اللبناني، مما يعني أنه من شأن تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية بموجب نص قانوني أن يؤدي إلى الطعن به أمام المجلس الدستوري لمخالفته القانون.

لذلك، يكمن الحل الأنسب والأقرب إلى العدالة في التقيد بمبدأ التنفيذ العيني للموجب النقدي، لأن للمصرف الدائن حقاً مكتسباً في استيفاء موضوع الموجب بالذات (أي بالدولار الأميركي)، إنما طالما أنه لا يمكن للدائن أن يرفض قبول الإيفاء بالعملة اللبنانية، بحسب المادة /١٩٢/ نقد وتسليف، بالتالي يجب أن يكون الإيفاء بالعملة اللبنانية بما يمكّن الدائن من استيفاء الموجب المتفق عليه كمّاً وعدداً ونوعاً دون تعجيز المدين.

وفي نهاية الدراسة السؤال التالي:" إزاء التخبّط السائد، هل يصدر مصرف لبنان تعميماً جديداً يقضي بأن يقوم العميل بايفاء القروض المصرفية (غير المشمولة القرار الوسيط المذكور) المعقودة بالدولار بالعملة عينها أو بالليرة اللبنانية على أساس سعر صرف /900، 3/ ل.ل.؟"

اما السؤال الأبرز إلى أين سعر الدولار في لبنان؟

بات سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار بلا سقف محدد، وهو مرشح لمزيد من التدهور. لقد شهدت دول مختلفة تجارب مماثلة، علماً أن لبنان كان في سبعينيات القرن الماضي يملك عملة دولية، وكان يقرض الأسواق الدولية بالليرة اللبنانية.

واليوم أصبح " المركزي " أضعف من قوى السوق والقوى السياسية غير عابئة بإفقار شعب.

ولكن الى متى استمرار المستبد؟