إنهم يشترون الوقت في زمن الانهيار، ويستمرون بتطبيق سياسة "تربيح الجميلة"، في حين أن "الإصلاح" المنشود والمطلوب بشدة، ما زال مفقودا، في بلد يتحكم سياسيوه برقاب الشعب ومصيره. والدليل الأكثر حداثة على ذلك، هو مشروع ​موازنة​ 2021 الذي قدّمه وزير المال في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني، حيث تم احتساب الإيرادات واعتمادها سعر الصرف الرسمي للدولار 1500 ليرة؛ نعم إنه الإنكار والاستهتار بالعقول!

لقد جاء هذا المشروع متأخرا جدا، لينذرنا بدخول ​لبنان​ من جديد مرحلة فوضى ​الإنفاق​ المالي. كما أنه تألف من موازنة عام 2020، مع بعض التعديلات، ذلك مع العلم أن ​الموازنة​ بتعريفها هي: "بيان تفصيلي يوضح تقديرات إيرادات الدولة ومصروفاتها، معبرا عن ذلك في صورة وحدات نقدية تعكس في مضمونها خطة الدولة لسنة مالية مقبلة".

"السنة المالية المقبلة"... هذه العبارة تدل على أن الموازنة، بطبيعتها، هي ​خارطة طريق​ للمستقبل، ولكن في دولة العجائب، ستتم دراسة مشروع موازنة 2021 خلال العام الجاري نفسه، لتكون بذلك شكلية 100%، ولا تمت إلى الواقع بأي صلة، كما أنها تنكر الواقع الإقتصادي والمالي والنقدي للبلاد، وبالتالي، سوف تلقي بالمزيد من الأعباء على الاقتصاد الوطني.

ومن هنا، كان لموقع "الاقتصاد" مقابلة خاصة مع ​الخبير الاقتصادي​ د. ​لويس حبيقة​، الذي أشار الى أن "أرقام الموازنة غير منطقية، لأنها من المفترض أن تكون بمثابة تخطيط الى الأمام"، لافتا الى أن "التقديرات لم تصح يوما في لبنان، كونها توضع لإرضاء هذا أو ذاك، ولا يتم طرحها بشكل علمي أو موضوعي، وبالتالي، يأتي الفرق دائما بين ما هو محقق وما هو متوقع".

وأكد أن موازنة 2021 تواجه مشكلة كبيرة، حيث من المؤكد أنها لن تكون كافية للبلاد، اذ تراجع الناتج المحلي الإجمالي من 60 مليار دولار الى 20 مليار دولار، ما يعني أن الموازنة لم تعد تعني شيئا، وما هي إلا مواد مكلبة ومصغرة؛ فحجم لبنان، اذا صح التعبير، أصبح يوازي اليوم 20 مليار دولار، أي أنه بات يشبه حجم بلدية مدينة متوسطة في ​أوروبا​. وقال: "في كل الحالات، برأيي، أنها لن تقر، لأن هذا الأمر بحاجة الى حكومة من أجل دراستها، لتتوجه بعدها الى المجلس النيابي. وحتى يتحقق ذلك، يكون العام 2021 قد انتهى".

أما بالنسبة الى موضوع تأمين النفقات، الذي يحتم ​طباعة​ المزيد من العملية الوطنية، فأوضح د. حبيقة أن هذا الإجراء سيؤدي حتما الى زيادة ​التضخم​ لأن البلد غير ينتج، ولكن من الأفضل حتما طباعة الليرة على عدم القيام بأي تدبير و"نفوت كلنا بالحيط". فبدون طباعة الليرة، سوف يعاني الناس، وسيدخل المجتمع في أزمة جديدة. وأضاف: "نحن واقعون بين سيئين، ولهذا السبب، علينا أن نختار الأقل سوءا. فمصرف لبنان يضخ الليرة منذ فترة، ما أدى الى تزايد جحم ​الكتلة النقدية​ بالليرة اللبنانية أضعاف. ولكن لا يوجد أي خيار آخر، ولولا ذلك، لما كان المواطن يحصل على الأموال لصرفها".

وتابع قائلا: "أما الخيار الآخر الأفضل، ولكن بعيد المنال والخارج عن إرادتنا، فيكمن في تشكيل حكومة والبدء تنفيذ الإصلاحات. ولكن هل هو بين أيدينا ومتاح لنا اليوم؟ طبعا لا! ومن هنا، نجد أنفسنا فعليا أمام خيارين متاحين هما: طباعة الليرة أم عدم طباعة الليرة. وللأسف، هما أسوأ من بعضهما البعض". وقال: "إما طباعة الليرة وتسيير أمور البلاد ورفع نسبة التضخم، وإما عدم طباعة الليرة وترك الناس في حالة من الألم والعوز، يسيرون في رحلة للبحث عن ​السيولة​ دون جدوى".

من ناحية أخرى، كشف د. حبيقة لـ"الاقتصاد"، أن "عدم تسديد ​الديون​ هو خطأ فادح قامت به الحكومة خلال العام الماضي، مع العلم أنه كان من الممكن الاستعانة بالاحتياطي للتسديد، والحصول على المزيد من الوقت". وأضاف: "رغم ذلك، لم تبدأ حتى بالتفاوض مع الدائنين، بل اكتفت بالتخلف، ما يؤثر على السمعة الدولية للبنان. وبالتالي، نحن نواجه مشكلة كبيرة في ما يتعلق بسوء الإدارة. ولكن هذا الأمر لا علاقة له بالموازنة، لأن هذه الأخيرة يجب إقرارها في جميع الحالات وهي أمر دستوري مفترض تقديمه والموافقة عليه قبل نهاية العام. ولكننا أصبحنا اليوم في منصف شهر شباط، وما زالت موازنة 2021 مجرد مشروع ومسودة. فما النفع في إقرارها خلال منتصف عام 2021، لتصبح بذلك مجر حبر على ورق؟".

كما أكد أن "الموازنة الجدية يجب أن تقر قبل بداية العام، واذا كانت هناك نية للعمل بجدية اليوم، يجب التركيز على موازنة 2022 للتأكد من إنهائها قبل بداية العام. لكن هذا الأمر بحاجة الى حكومة جديدة، لأن حكومة تصريف أعمال مستقيلة لا تستطيع القيام بذلك".

وتابع د. حبيقة قائلا: "سنستمر بالإنفاق في الوقت الحاضر على القاعدة الإثني عشرية، التي يسير عليها لبنان منذ سنوات، والتي لا تناسب بلدنا على الإطلاق، خاصة لأن الوضع اليوم بات متأزما للغاية، حيث تراجع حجم الاقتصاد بنسبة 60%، ولم تعد الحالة مشابهة لما كانت عليه في السابق. وبالتالي هذه القاعدة باتت مشكلة كبيرة، كونها وضعت لبلد يبلغ حجم اقتصاده 60 مليار دولار وليس 20 مليار دولار؛ ما يعني أن كل الأرقام لم تعد صحيحة".

أما بالنسبة الى موضوع "ضريبة التضامن الاجتماعي"، فقال: "أنا ضد أي ضرائب جديدة على الإطلاق مهما كان نوعها. فالدولة بحاجة حتما الى تأمين الأموال، ولكن فلتبدأ بالأموال المنهوبة أو المسروقة أو المحولة بدون قانون".

من جهة أخرى، شدد على ضرورة وضع الرقابة على المنظمات غير الحكومية (NGOs)، وقال: "نحن نقرأ ونسمع أن عشرات ملايين الدولارات دخلت الى لبنان على شكل تبرعات لهذه المؤسسات، بسبب غياب الثقة بالدولة. ولكن أين هي اليوم؟ ماذا حلّ بها؟ الى من توزعت؟ من يراقب عمليات التوزيع؟ نحن للأسف لم نعرف مصير هذه الأموال، وعلى وزارة الشؤون الاجتماعي أن تحل هذا الموضوع".

وفي ما يتعلق بقرض شبكة الأمان الاجتماعي للبنان،​​ والبالغة قيمته 246 مليون ​دولار، وموافقة البنك الدولي على تخصيص 34 مليون ​دولار​ للمساعدة في توفير لقاحات "كورونا" بقيمة 34 مليار دولار، أوضح د. حبيقة أن البعض قد ينسى أن هذه الأموال ستأتي على شكل قرض، ما يعني أنه علينا إعادة دفعه في وقت ما. وقال: "أنا حتما أؤيد هذه القروض بسبب وجود العديد من العائلات التي تحتاج الى الدعم والمساعدة، ولكن يجب أن لا ننسى أن هذه الأموال ليست مساعدات أو هبات أو حسنة أو هدية، بل هي بمثابة دين وعلينا إعادة دفعه. وللأسف، حتى الآن، ما زالت العائلات المختارة مجهولة، و​آلية​ الدفع غائبة".

وختم د. حبيقة بالقول أن "الكارثة المالية تتوسع شيئا فشيئا مع مرور الأيام، والمسؤوليات ضائعة، في حين أن الحديث يدور حول المحاصصات والثلث المعطل. الى أين سيأخذون هذا البلد من خلال سياسة سوء الإدارة والنهب والفساد؟".

وفي ما يتعلق بموضوع سعر الصرف، توقع أن "يتحدد قريبا عند الـ4000 ليرة أو 4500 ليرة لأن هذه الفوضى الموجودة حاليا لا حلّ لها".