نسمع كثيراً من المواطنين يشكون اليوم من أن انتفاضة 17 تشرين هي التي أوصلت البلد الى حالة الانهيار الحالية، وأنه لو دفعنا 6 سنتات ضريبة على استخدام الواتساب، ولم ننزل إلى الشارع للاعتراض، لما كنا وصلنا الى واقع اليوم.

هكذا بكل بساطة يصدق بعض الناس دعايات بعض القيمين على النظام، ان المشكلة هي في غباء الجمهور، الذي تسبب بسقوط ​الليرة اللبنانية​ وتحليق ​الدولار​ الى مستويات قياسية جنونية، وبفعل ذلك حصل ​التضخم​ المريع والانهيار الكامل للعملة الوطنية وللقدرة الشرائية.

سبق وكتبنا في موقع "الاقتصاد" عن وقائع خطيرة حصلت منذ العام 2017 وكانت تشي بقرب انفجار ​الأزمة المالية​، وأهم هذه الوقائع أن عودة الرئيس سعد الحريري عن استقالته التي أعلنها في ​السعودية​، والتي قيل انه قدمها مرغما، أدى في نهاية المطاف الى اهتزاز الثقة المالية بلبنان، ولاسباب سياسية، لأن كبار المودعين بدأوا بسحب ثرواتهم ونقلها إلى الخارج، وربما بايعاز خارجي.

ولكن هذا لا يفسر وحده سبب الأزمة، ولا يبرر السقوط المدوي لليرة، فمقدمات الانهيار كانت حاضرة حتى قبل العام 2017، وكانت توقعات الخبراء، تشير الى أن الاستمرار بتثبيت ​سعر صرف الدولار​ عند 1500 ليرة، سيغدو مستحيلا في يوم من الأيام.

في ايلول 2016 أعدت جمعية ​المصارف​، في احدى نشراتها الشهرية، دراسة حول مدى صمود سعر صرف الليرة، في ظل تراكم ​عجز ميزان المدفوعات​ واستمرار الأزمات في لبنان كانعكاس لحرائق ​الشرق الأوسط​، وخلصت إلى أنه إذا استمر الوضع كما هو عليه، فإن القدرة على تثبيت سعر الصرف ستنهار بعد سنتين. ويعني ذلك تضاعف سعر صرف الدولار إلى 2659 ليرة عام 2018 و5638 ليرة عام 2020.

ذكرت الدراسة يومها انه بين 2011 و2015 تراكم العجز إلى 8.7 مليارات دولار، وفي الأشهر الستة الأولى من السنة (2016) ازداد بقيمة 1.77 مليار دولار. أما أسبابه، فتكمن في اعتماد لبنان على التدفقات الرأسمالية الخارجية التي تأثّرت بعوامل عدة، أبرزها ​الأزمة السورية​، والأزمة الاقتصادية في البلدان التي يعمل فيها لبنانيون مغتربون وضعف قدرتهم على التحويل إلى لبنان.

وعلى هذه الوتيرة استمر الانحدار المالي في السنوات اللاحقة للعام 2015، واذا كان العام 2017 شهد بدايات تهريب الرساميل إلى الخارج فان العامين التاليين 2018 و2019 شهدا بداية مرحلة السقوط الحر في الهاوية، لأن السلطة السياسية القائمة لم تتخذ أي اجراءات عاجلة، كانت ضرورية وملحة لوقف الانهيار، بل على العكس، عجلت في مسار الانحدار بزيادة الانفاق الحكومي غير المنتج،وفاقمت العجز ورفعته بنسب كبيرة، وفوق كل ذلك،غرقت في متاهات الخلافات السياسية بين مكوناتها. وكلنا نذكر انه بعد الانتخابات النيابية في أيار 2018 وعلى الرغم من التوافق على تطليف الرئيس سعد الحريري لتشكيل الحكومة، بقي البلد من دون مجلس وزراء لسبعة اشهر.

هكذا رهنت السلطة الاقتصاد والمالية العامة في صراع مميت للبلد، وعندما بدأت تشعر بوطأة الانهيار يقترب راحت الحكومة فور تشكيلها تبحث عن سبل سد فجوة العجز الكبيرة في الموازنة من خلال اجراءات ترقيعية على مثال الاقتراح البائس واليائس بفرض رسم 6 سنتات على استخدام الواتساب. علماً انه لم يكن ليؤمن سوى 200 مليون دولار اضافية إلى موزانة يقدر العجز بمليارات ال​دولارات​.

هل كان بالامكان أفضل مما كان؟

الجواب هو نعم بالتأكيد، لأن الأزمة الحقيقية ليست في العجز المالي بسبب الانفاق الحكومي غير المجدي، فهذا أحد وجهي الازمة، أما الوجه الآخر فهو خسائر ​مصرف لبنان​ التي استنزفت احتياطاته، وتضاعف مديونية الدولة، أولاً بسبب هذا الانفاق المتمادي، وثانياً بسبب تضاعف خدمة ​الدين العام​، وثالثاً، ولعله السبب الأهم، الاستمرار بتثبيت سعر صرف الدولار على 1500 ليرة، بكلفة عالية جداً وهو سعر وهمي لا يعكس حقيقة ​الوضع الاقتصادي​ والمالي للبلد.

وهنا نعود إلى توقعات ​جمعية المصارف​. فلو تم التحرير الجزئي لسعر الصرف طواعية في العام 2018، كاول اجراء تتخذه حكومة الحريري بعد الانتخابات النيابية، فيكون ​سعر الدولار​ 2659 ليرة، لأمكن لجم الانحدار الى حد كبير، وحافظ البنك المركزي على دولاراته، على أن يتبع ذلك تنفيذ خطة طموحة بتفعيل ​القطاعات الانتاجية​ من صناع وزارعة لجلب الدولارات من الخارج، على عكس ما يجري من نزيف هائل للعملات الصعبة، جراء الاستيراد المفتوح.

كان بالامكان الحد من النزيف، والبدء بعلاجات سريعة. ولعله كان بالامكان البقاء على سعر الدولار هذا (2659 ليرة)، وعدم الانتقال إلى السعر الثاني المتوقع من جمعية المصارف للعام 2020، أي 5638 ليرة. وفي كل الأحوال فان المقارنة بين هذين الرقمين وبين أسعار الدولار اليوم تجعلنا نتمنى لو كنا ذهبنا الى السعر الأخير.

لا عجب أن نقول أسعار الدولار اليوم، وهذا ما يعرفه الجميع، فلدينا السعر الرسمي 1500 ليرة، وسعر المنصة 3900 ليرة، وسعر السوق الموازي بين 8500 و9000 ليرة. ولكن إلى متى؟

يبدو أن سعراً رابعاً للدولار يشق طريقه الى السوق، ليصير لاحقاً هو سعر التثبيت الرسمي، وهو 6250 ليرة للدولار، وقد ظهر هذا السعر في مناسبتين: الأولى، عند الحديث عن قرض ​البنك الدولي​ البالغ 246 مليون دولار، والمفترض أن يوزع على الأسر الأكثر فقراً، فقد اقترح حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ان يحتفظ بالمبلغ بالاتفاق مع البنك الدولي، فلا تدفع ​المساعدات​ بالدولار بل بالعملة الوطنية، على سعر 6250 ليرة للدولار.

والمناسبة الثانية شبيهة بالأولى، ولكنها دائمة وليست لمرة واحدة، فقد طلب سلامة أن يكون مصرف لبنان هو الجهة الوحيدة في البلد التي تستقبل الدولارات التي ترسلها المنظمات الدولية إلى برنامج دعم النازحين السوريين. وقد مهد لذلك باصدار تعميم وسيط يطلب من المصارف التي تتلقى حاليا هذه الهبات ابلاغ المركزي بحجمها ، ثم وجه كتاباً إلى المنظمات الدولية، يطلب فيه التعاون وارسال ​العملات الاجنبية​ الى لبنان عبر البنك المركزي، بوصفه المصدر الوحيد للدولارات في لبنان التي تستخدم في تأمين احتياجات المؤسسات المرتبطة بمصرف لبنان، ودعم المواد الرئيسية المستوردة بالعملة الأجنبية. وأخبر سلامة في كتابه ان سعر "الصرف الإنساني" الذي وضعه لصرفه على النازحين، يفوق 60% من سعر المنصة المحدد بـ 3900 ليرة، وهذا السعر هو 6250 ليرة للدولار.

بغض النظر عن قبول البنك الدولي وسائر المنظمات الدولية، بما يريده مصرف لبنان، فان حاكم المركزي يبشر، من حيث يدري أولاً يدري، بسعر جديد للدولار هو 6250 ليرة، ولعله السعر الأقرب إلى واقع الليرة اللبنانية، فالسعر رسمي 1500 ليرة، هو سعر ورقي، يحتاجه مصرف لبنان للحصول على الدولارات وتحويلها ورقيا الى الخزينة على أساسه، وسعر المنصة 3900 ليرة، هو مجرد قناع للـ haircut، لان المصارف تستخدمه لتحويل الودائع بالدولار الى الليرة عند سحبها من قبل اصحابها، اما سعر ​السوق السوداء​ 9000 ليرة فهو غير دقيق، لانه مستمد من عمليات تبادل ومضاربات وتحويلات او تهريبات، وكلها اعمال غير مشروعة، وغير قابلة للضبط والتحديد.

عندما أُطلق سعر المنصة قيل انه موقت، ولكنه اليوم صار واقعاً ملموساً، ويشكل مرجعاً للكثير من العمليات المالية، مثل سحب مصرف لبنان دولارات ​التحويلات​ الالكترونية لفترة، وسحب الودائع بالدولار من المصارف، باستثناء fresh ​money​، ومثل تسعير الخدمات الطبية والاستشفائية، وكذلك التعليمية في الجامعات و​المدارس الخاصة​. وما هي الا مسألة وقت حتى يفرض السعر الجديد (6250 ليرة) نفسه على المتعاملين، ويشكل ذلك مقدمة لتثبيته رسميا. ولنذكر أن الشرط الاول لصندوق ​النقد الدولي​ لمساعدة لبنان هو تحرير سعر الصرف.

قد يقول المواطن العادي ان 6250 ليرة افضل من 9000 ليرة، ومن شأن اعتماد السعر الجديد أن يلجم توحش الاسعار (والتجار) اليوم على أساس سعر السوق السوداء. وهذا ما يبدو في الظاهر، ولكن الخطير في الامر ان اعتماد هكذا سعر سيعني، وسيترافق، مع الغاء الدعم عن ​القمح​ و​المحروقات​ والدواء والمسلتزمات الطبية وبعض ​المواد الغذائية​، والتي يغطيها بنسبة كبيرة مصرف لبنان حتى اليوم. وهذا يعني أن ​اسعار السلع​ المدعومة الآن ستتضاعف اربع مرات ونصف!

الكارثة المالية مستمرة، وفصولها تتوالى.