يعيش المسؤولون اللبنانيون في حالة من الإنكار، فهل يحاولون حماية أنفسهم من خلال رفض قبول الحقيقة بشأن ما يحدث؟ قد لا نجد الإجابات المناسبة على هذا السؤال الذي يطرحه بالعادة علم النفس، على مريض يعاني من الإنكار. ولكن ما هو مؤكد، أن الساسة اللبنانيين، ما زالوا الى حد اليوم، لا يقرون بصعوبة المواقف الحاصلة على الساحة المحلية، وفي المقابل، يحاولون عدم مواجهة حقائق المشكلة، ويستهينون بالعواقب المحتملة لهذه المشكلة؛ وهنا تكمن الأزمة الحقيقية!

ومع دخولنا في الشهر الثاني من السنة، ما زالت ​الموازنة​ مشروعا، في حين تتم الجباية و​الإنفاق​ على قاعدة الاثني عشرية؛ هذه القاعدة التي أدت الى كل الفوضى الحاصلة في وضع المالية العامة في البلاد. وذلك مع العلم أن القانون يجيز للحكومة الإنفاق وفق القاعدة المذكورة، حتى نهاية شهر كانون الثاني من كل عام كحد أقصى.

سنتحدث اليوم الى الخبير الاقتصادي د. ​سامي نادر​، للتعرف الى نظرته العامة حول مشروع موازنة 2021، التي وصفها البعض بالوهمية والشكلية كونها تفتقد الى الرؤية للخروج من الأزمة التي نعيشها، كما أن الأرقام المعتمدة فيها هي على أساس سعر الصرف 1500 ليرة.

وأوضح د. نادر لموقع "الاقتصاد"، أن "مشروع الموازنة المطروح يكشف عن حالة الإنكار الكلية التي تعيشها الحكومة، لأنها ليست مبنية على خطة ورؤية اقتصادية، كما أنها لا تحاكي الواقع، ويمكن وصفها بالـ"غائبة عن الوعي".

ووفق أرقام الموازنة المقدرة نفقاتها بـ18259 مليار ليرة، لم يؤخذ بالاعتبار أي التزامات للدائنين الدوليين، والمقدّرة ديونهم بالدولار، ذلك لأن لبنان اتخذ قراراً رسمياً العام الفائت بالتخلف عن الدفع. كذلك الأمر بالنسبة إلى العديد من النفقات التي تقوم على الاستيراد، فلم يتم احتسابها على أساس قيمة الدولار الحقيقي. ما يجعل من أرقام موازنة 2021 غير واقعية وتقديراتها نظرية.

ومن هنا، أشار د. نادر الى أن "​الناتج المحلي​ الإجمالي "الحقيقي" يبلغ 18 مليار دولار "حقيقية"، وذلك بحسب ​البنك الدولي​ و​صندوق النقد الدولي​، وبالتالي، لم يعد يلامس عتبة الـ50 مليار دولار، كما كان في السابق، بسبب ​الانكماش​ الحاصل وتدهور سعر الصرف. واذا احتسبنا 18 مليار دولار على سعر الصرف 1500 ليرة، نحصل على 17 تريليون ليرة، لنجد أن النفقات العامة تشكل 67% من الاقتصاد. أما اذا أردنا احتسابها على سعر الصرف الحقيقي في السوق، سنكتشف الى أي مدى انحصرت قدرات الدولة على البقاء والاستمرار".

أما بالنسبة الى العجز، فقدرت وزارة المالية العجز الأولي بـ4090 مليار ليرة، من دون احتساب سلفة خزينة لمؤسسة ​كهرباء لبنان​ بقيمة 1500 مليار ليرة، ما يرفع قيمته إلى نحو 5590 مليار ليرة. فمن أين سيتم تمويل هذا العجز؟ هل سنستمر بطباعة الليرة التي تكلفنا الكثير وتؤدي الى فقدان العملة المحلية للمزيد من قيمتها؟ وكيف يمكن لدولة تخلفت عن تسديد ديونها، أن تستمر في تقديم موازنات مع عجز هائل؟

وذكر د. نادر أنن "مع عجز بلغ نحو 5.7 تريليون ليرة، مقابل نفقات وصلت الى نحو 18.3 تريليون ليرة، سنجد أن العجز يشكل نسبة 21%". وقال: "هذه الموازنة خالية وفارغة وبعيدة كامل البعد عن الواقع. وفي عناوينها العريضة، نلاحظ أن أرقام الإنفاق والعجز هائلة بالنسبة الى حجم الاقتصاد الحقيقي".

كما تحدث حول المادة 37 من مشروع الموازنة، المتعلّقة بضريبة التضامن الوطني؛ وهي ضريبة استثنائية تُفرض لمرة واحدة على قيمة كل حساب دائن مفتوح لدى ​المصارف​ اللبنانية، وتقدّر بنسبة 1% عن كل حساب تبلغ قيمته مليون دولار ولا تتجاوز 20 مليون دولار، 1.5% عن القسم من الحساب الذي يزيد عن 20 مليون دولار ولا يتجاوز 50 مليون دولار، و2% عن القسم من الحساب الذي يزيد عن 50 مليون دولار. بالإضافة الى نسبة 1% عن كل حساب تبلغ قيمته 1.5 مليار ليرة، ولا يتجاوز 30 مليار ليرة، و1.5% على القسم من الحساب الذي يزيد عن 30 مليار ليرة ولا يتجاوز 75 مليار ليرة، و2% عن القسم من الحساب الذي يزيد عن 75 مليار ليرة. وعلى المصرف أن يقتطع هذه الضريبة، وأن يؤديها إلى الخزينة، ضمن مهلة أقصاها شهران من تاريخ إقرار قانون الموازنة وبعملة الحساب.

وفي هذا السياق، أوضح د. نادر أن "ضريبة التضامن الوطني هي بمثابة "haircut" فوق الـ"haircut" الذي نعيشه، ويمكن فرضها لمرة واحدة فقط، ولكن عند وضع برنامج إصلاحي اقتصادي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي والأطراف الموثوقة، من أجل طرح خطة من شأنها إخراجنا من الأزمة". وأضاف: "حينها سنقرر كيفية توزيع الخسائر - ليتحملها بالطبع الأشخاص الميسورين وليس الفقراء – إنما دون ذلك، يجب أن لا يتم فرض هذه الضريبة لأنها تمس بملكية خاصة، وهذا الأمر غير مقبول".

كما أكد على أن "الطريقة الوحيدة لقبول هذه الضريبة، ستكون من خلال طرح حلّ للخروج من النفق، والاتفاق على طريقة للنهوض والتخلص من كلفة الأزمة الحاصلة". وقال: "جميعنا نعيش "haircut" يومي، خاصة على أصحاب الودائع الصغيرة، بسبب عدم القدرة على الحصول على أموالنا بالدولار من المصارف، وعندنا نسحب دولاراتنا على سعر 3900 ليرة، سنفقد للأسف نصف قيمتها، بالمقارنة مع سعر السوق".

من جهة أخرى، تحدثنا الى د. نادر حول موضوع الدعم، حيث نشهد بشكل دوري وأسبوعي على ارتفاعات في أسعار المواد، مثل ​المحروقات​ و​الخبز​. فهل هذه الإجراءات هي بمثابة مقدمة لرفع الدعم تدريجيا؟

ومن هنا، قال في حديث لموقع "الاقتصاد": "أعتقد أن موضوع الدعم الذي كان يستنزف احتياطي ​مصرف لبنان​ من ​العملات​ الأجنبية، قد انتهى وبات أمرا واقعا. ونحن نعيش المؤشرات الأولى لذلك". وأوضح أن الاحتياطي في مصرف لبنان قد نفذ، وما تبقى من ودائع الناس سينفذ قريبا جدا.