في مرحلة الحجر الصحي المفروضة على اللبنانيين للوقاية من وباء كورونا المستشري حاصداً الأرواح من مختلف الأعمار، وفي ظل مناكفات سياسية على حدتّها، من تعطيل للبلاد وتيسير لشؤون الناس مع ما يرافقها من ​اقتصاد​ يحاول بجهد مرير لملمة بقاياه، ثمة استحقاقات تبقى قائمة ولا يمكن الرهان على التطورات والمستجدات لتجميدها.

فالبلد بدون سلطة تنفيذية تسهر على خدمة المواطنين وتطبق ​خارطة طريق​ انقاذية تخرجه من نفق جهنّم الطويل. ومن المعلوم أنه يطلب من أي حكومة جديدة إعادة الحياة إلى ​حقيبة​ ​الدين العام​، التي سوف تعزز الكثير من الثقة المفقودة مع ​المجتمع الدولي​، وخصوصاً مع ​المصارف​ المراسلة لغاية إعادة الخطوط الائتمانية المعلّقة حالياً لتسهيل تمويل ​التبادل التجاري​ الخارجي مع لبنان، كما وإحياء السوق المصرفي والحفاظ على حقوق المودعين الذين ستتصاعد تحركاتهم في المرحلة القليلة المقبلة، لتنتج ثورة شعبية مطالبة باسترداد ​الأموال المنهوبة​ إذا لم يُحرّك المسؤولون ساكناً في هذا السياق.

لاشك أن المستهدف سيكون ​مصرف لبنان​ و​القطاع المصرفي​ معاً، رغم تبادل الاتهامات في ما بين الطرفين والتسابق الى رفع المسؤولية عن سياسات "بونزية" تم الاعتماد عليها في السابق.

القطاع المصرفي عاش حقبة ذهبية طويلة، وفرض نفسه ميسّراً ومدبّراً في الكثير من الأمور الحياتية. إلا أن ثورة 17 تشرين الأول 2019، نزعت عنه الصورة المطمئنة وأفقدته الثقة بأدائه غير المبني على العلم الارتقائي الإيجابي بعد حجزه، أموال المودعين وتحويله خارجاً أموال المحظوظين والمدعومين منه ومن السياسيين وأصحاب النفوذ.

هل الشروط التي فرضها مصرف لبنان على المصارف من أجل إعادة الهيكلة كافية لإعادة الثقة بالقطاع وتأمين الأموال للمودعين، بدءاً من التعميم 154، وحَثّ العملاء العاديين على إعادة 15% من الأموال التي جرى تحويلها إلى الخارج منذ الأول من تموز عام 2017، وحَث رؤساء وأعضاء مجالس إدارة المصارف والمكشوفين سياسياً (PEPs) لإعادة 30% من هذه الأموال... وتكوين ودائع دولارية مُحرَّرة من أي التزامات في المصارف المراسلة بهدف الوصول الى نسبة 3% من حجم الودائع؟

من المعلوم، أنّ الهدف من هذه العمليات لم يكن فقط لرفع الرأسمال في الداخل إنما لتحسين سيولتها في الخارج لدى المصارف المراسلة.

ما هي التعاميم التي كان من المفترض إرسالها الى القطاع؟

يؤكد النائب الثاني ل​حاكم مصرف لبنان​ سابقاً الدكتور سعد عنداري أن العلاج الناجع هو الإصلاح المالي وليس النقدي. ولكن هذا لايعني انه يجب إعفاء رؤساء وأعضاء مجالس إدارات المصارف والمكشوفين سياسياً من واجباتهم اطلاقاً.

ويقول لـ "الاقتصاد": كما أن الإصلاح المالي والإصلاحات المطلوبة من المجتمع الدولي هي المدخل الأساسي لإعادة اي ثقة.

وكان من المفترض أولاً: مع مطلع العام 2019 وضع ضوابط لحركة الاموال منعاً لتهريب الرساميل الكبيرة كما يحصل اليوم، والتي يصعب استعادتها.

ثانياً: ان يستهدف برنامج الدعم الطبقات الفقيرة فقط منعاً من تسهيل عمليات التهريب المستمرة لغاية اليوم.

ولكن هل يحق لحاكم المركزي برفض طلب الحكومة بتمويل الدعم من أموال المودعين؟

برأي عنداري، نعم يحق لحاكم مصرف لبنان رفض تمويل الدعم من أموال المودعين. وتساءل كيف لنا ان ندعم المودع من امواله؟

فإذا أخذنا تجارب العالم، نجد أن الحكومات هي من تقوم بتمويل الدعم.

أما عن تعويم سعر الصرف الذي قصده حاكم مصرف لبنان، فرأى أنه من المستحسن ان يتم بشكل منظّم بحيث يقوم " المركزي" بادارة التعويم "Managed Flotation" لتأمين الحماية لمداخيل الطبقات الكادحة، على أن يترافق ذلك مع دعم حكومي للمواد الأساسية، وفقط يكون ذلك لهذه الفئة المجتمعية دون سواها.

شروط الدعم واستعادة الثقة

كل المؤشرات تلحظ إنّ ​احتياطات​ ​مصرف لبنان​ المُتاحة آخِذة في النضوب، ولن يعود البنك المركزي قادراً على الاستمرار في دعم كلفة ​​استيراد​​ السلع الأساسية، بما في ذلك ​المحروقات​ و​الأدوية​ و​القمح.

في المعلومات، بلغ في نهاية تشرين الثاني الماضي، احتياطي ​النقد الأجنبي زهاء 17 مليار دولار ونصف، ما يعني أنه بقي القليل القليل يمكن تسخيره لدعم استيراد السلع الأساسية، علماً أنّ الـ 17 مليار دولار المتبقية هي الاحتياطي الإلزامي للمصارف، والخوف من ان تطالها اليد موجود، هذا إذا لم يتم البدء باستعمالها اليوم!

أما الحصول على الدعم الخارجي فهو غير مضمون خصوصاً وان ​صندوق النقد الدولي​ و​البنك الدولي​ والجهات المانِحة الرسمية الأخرى، عَلّقت ​​الدعم المالي​​ للبنان بشكل أساسي، بسبب الفشل المتكرر للطبقة السياسية في تنفيذ الإصلاحات الرئيسية التي يتوقعها الصندوق و​المجتمع الدولي​، وهي:

- إجراء مراجعة كاملة لحسابات البنك المركزي (تدقيق جنائي) لتفعيل الشفافية والمساءلة.

- إقرار قانون وَضع ضوابط على رأس المال (كابيتال كونترول).

- ضمان استقلالية القضاء للحدّ من ​الفساد​ وتفعيل المساءلة.

- توحيد أسعار الصرف المتعددة مع وصول أول دفعة من الدعم المالي الخارجي.

- إعادة تأهيل "​مؤسسة ​كهرباء​ لبنان​" ووضع حدّ للخسائر الناتجة عنها.

- تحقيق فائض مالي أوّلي كبير، بدءاً من العام 2022، من أجل توجيه الدين العام نحو مسار هبوطي مُستدام.

- إعادة هيكلة النظام المالي الذي سيشمل إعادة الرَسملة ودمج المصارف

- إنشاء شبكة أمان اجتماعي موسّعة لتوفير الحماية القصوى للأشخاص الأكثر حاجة.

والى ذلك ، فإن تأليف حكومة جديدة من خبراء مستقلّين في وقت قريب، والبدء في تنفيذ الإصلاحات، والتوَصّل إلى اتفاق مع "صندوق النقد الدولي"، وإطلاق العنان للمساعدات المالية الخارجية الملحّة ستكون مدخلاً لانتعاش الاقتصاد، في حين أنّ الضغوط التضَخميّة الإضافية الناجمة عن رفع الدعم على السلع الأساسية ستتراجع حدّتها من خلال الارتفاع الكبير في سعر الصرف الموازي.

ويبقى على المودعين الاتكال على إيجاد الدولة القادرة التي يُعتمد على قراراتها.