دقت ساعة الصفر وبدأ لبنان – بلد التجار والمستهلكين - اليوم بتطبيق الإغلاق العام و"الشامل"، لمدة 10 أيام، وفي المناطق والمحافظات كافة. فبعد "حالات الهلع" التي شهدتها السوبرماركت والأفران و​المصارف​، والزحمة التي عمّت الطرقات، حيث اعتبرت النسبة الأكبر من المواطنين أننا قادمون على "نهاية العالم" أو أنه من الممكن أن "نموت من ​الجوع​" خلال فترة هذا الحجر المنزلي القسري، نعيش حالة من "هدوء مع بعد ​العاصفة​"، ونترقب ما سيتأتى قريبا عن هذه العاصفة التي شابها الازدحام ومبدأ "اللاتباعد" الاجتماعي، لأن "كورونا" يسرح ويمرح فقط خلال ساعات الإقفال التي تفرضها الدولة، أما في الأوقات الأخرى، فالجميع بأمان والحمد لله!

وفي ظل المناكفات والقرارات الخاطئة التي قادت الناس الى العيش في خوف متواصل، والى ترقب دائم للأسوأ، لا يمكن أن نلقي كامل اللوم هنا على شعب أنهكه ​الفساد​، وأفقده الثقة بأنه سيحصل "غدا" على طعامه ودوائه ومحروقاته، فلجأ الى التخزين الهستيري وغير المبرّر.

لكن بالإضافة الى الإقفال، هناك أسئلة كثيرة تراودنا خلال الفترة، مع الحديث عن تعويم سعر الصرف، وعودة الأزمة السياسية الحكومية، مع تطورات سلبية في أزمة التأليف.

ومن هنا، كان لـ"الاقتصاد" مقابلة خاصة مع ​الخبير الاقتصادي​ بلال علامة، الذي أوضح بالنسبة الى موضوع الإغلاق الشامل، أنه "كان من الضروري ضبط الأمور من قبل وليس الآن، فقد أثبتت التجارب أنه في ظل غياب ​آلية​ لتنفيذ القرارات وضبط الأمور، فإن كل قرارات إقفال القطاعات والمناطق، تصبح عديمة الفائدة".

وأضاف: "الأسئلة الذي تطرح نفسها اليوم هي: "في ظل تقاعس السلطة والحكومة عن إطلاق خطة مدروسة لمواجهة الموجة الثالثة من "كورونا"، التي حكي عنها مطولا في السابق، هل أعدت السلطة خطة ​محكمة​ لضبط الأمور؟ أم أن قرار الإقفال جاء كردة فعل دون تحديد أي بدائل أو احتمالات أخرى؟ وما هي النتائج التي ستتأتى على قرار من هذا النوع في ظل غياب الرؤية والخطة الحقيقية لمفاعيل ونتائج الإقفال الكامل؟".

وتابع قائلا: "لن تتمكن السلطة، طالما أنها ما زالت غير قادرة على فرض سيادتها وتنفيذ قراراتها على كل الأراضي اللبنانية بالتوازي وبشكل موحد، أن تحصد نتائج إيجابية من هكذا قرار، كما لن تكون مفاعيله مفيدة على الاقتصاد". وأوضح أن قرار الإقفال جاء لتهديد ما تبقى من ​اقتصاد لبنان​، أي بعض الصناعات والقطاعات التجارية، التي يتنفس من خلالها، والتي تعتبر أساسية، وبقيت صامدة خلال العام المنصرم؛ فتم منعها من العمل، ووضع ضوابط على نشاطها.

وقال علامة: "كلنا نعلم أن عمل القطاع الصناعي لا يتعلق باللحظة، لا بل هو مرتبط بعقود تتعلق بالتسليم والتوريد (مواد أولية، آليات عمل، ومدة زمنية محددة)، وعندما ​يقفل​ أبوابه لمدة 10 أيام، ستختل كل العقود، وفي بعض الأحيان، تكون تبعات هذا الاختلال بالعقود كارثية، لناحية البنود الجزائية والالتزام. وأخطر ما فيها خسارة الأسواق؛ فالزبون الذي لا يعاني من الظروف ذاتها الموجودة في لبنان، لن يتفهم أن السلطة أخذت قرارا بإغلاق المصانع، بل سيرى فقط أن المصانع اللبنانية لم تعد قادرة على الالتزام في التسليم بالوقت والشروط المفروضة عليها، وبالتالي سيقوم باستبدالها بمصانع أخرى". ولفت الى أن بعض الصناعات تعمل للأسواق الخارجية، وتسهم في إدخال الـ"Fresh ​money​" الى لبنان.

كما أوضح أن قرار الإقفال جاء أيضا لزيادة معاناة بعض القطاعات، مثل القطاع الزراعي، بالإضافة الى أن ما تبقى من ​الاقتصاد اللبناني​ – مثل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة - سوف يدفع ثمنا كبيرا جدا.

أما بالنسبة الى تعويم سعر الصرف، فقال د. علامة لـ"الاقتصاد": "لقد سمعنا جميعا التصريح الذي أدلى به حاكم ​مصرف لبنان​ رياض سلامة، وجاء فيه أنه قد آن الأوان لكي نصل الى اعتماد سعر الصرف العائم. ومن خلال استخدام عبارة "آن الأوان"، هو يقول فعليا أن لبنان لم يعد باستطاعته أن يتابع في سياسة الدعم التي جلبت الويلات، لا سيما في ظل أسعار متعددة للدولار، بدءا من السعر الرسمي 1500 ليرة، مروروا بسعر المنصة، وصولا الى سعر ​السوق السوداء​، خاصة في ظل عدم القدرة على لجم السوق الموازني، رغم كل المحاولات، حيث تحول نصف الشعب اللبناني الى صراف أو الى مضارب على سعر الليرة".

وأكد أن هذه الأموال التي تم سحبها ووضعها في ​المنازل​، جاءت نتيجتها الفعلية على شكل تلاعب في سعر الصرف، ومضاربة على سعر الليرة. وأضاف: "نحن نعلم أن سعر الليرة بالمفهوم القانوني هو عملية سيادية، والمضاربة عليها بواسطة السوق السوداء، فتحت بابا لتهشيم سيادة النقد.

كما لفت الى أن نحو 70% من الاقتصاد اللبناني ما زال يعتمد على سعر 1500 ليرة، مثل الاتصالات و​المحروقات​ و​الكهرباء​، وبالتالي، فإن عملية التعويم ستأتي بالإكراه وليس بالإرادة، مشيرا الى أن الحاكم قصد بالقول أنه لم يعد بإمكاننا الاستمرار بالدعم الذي استمر على مختلف القطاعات، منها الاستراتيجية، ومنها ​السلع الغذائية​، وغيرها من الأمور، كما لم يعد لدينا من الاحتياطيات ما يتيح لنا القدرة على ضبط الأسواق السوداء، سواء بالتهريب أو الاحتكار للسلع المدعومة أو المضاربة على الليرة. ومن هنا، آن الأوان لكي نصل الى سعر السوق العائم.

وذكر علامة أيضا، أن الطبقة السياسية تقاوم بأقصى قوتها الوصول الى هذه النتيجة، وتحاول بشتى الوسائل، أن لا يتوقف الدعم، لأن نتائج هذا القرار ستكون كارثية في الشارع، ولكن في نهاية المطاف "لا حول لا قوة"، والمواطن لن يتحمل هذا الإجراء، وستتفلت الأمور على أكثر من صعيد. فعندما تعجز السلطة النقدية عن التمويل على أسعار 1500 و3900 ليرة، وعن ضبط الأسواق السوداء، ستصبح قراراتها مفروضة بالإكراه على المواطن، إلا في جال الاتجاه نحو المزيد من الهدر في أموال المودعين، وفي ما تبقى من الاحتياطي الإلزامي الذي يقدر اليوم بـ15 مليار دولار؛ وذلك مع العلم أن كل الأرقام الرسمية تشير الى أن هذا الاحتياطي يجب أن يكون 17.5 مليار، ولكن تم استعمال جزء منه.

وفي ملف تأليف الحكومة وتداعياته الاقتصادية، قال د. علامة: "لقد وضعنا كل رهاننا على إمكانية تشكيل حكومة وفق المبادرة الفرنسية، التي سميت بـ"حكومة المهمة"، والتي لديها برنامج محدد يتعلق بتنفيذ الإصلاحات وإعداد خطة مالية اقتصادية سريعة للخروج من الأزمة وإطلاق عنان المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، من أجل الحصول على مساعدات، من شأنها إعادة إطلاق الدورة الاقتصادية المحلية".

وأوضح أن ما حصل يثبت للأسف أن من هم في سدة المسؤولية، لا يهتمون بهذا الموضوع، ولا ينظرون بعين الرأفة الى المواطن اللبناني والاقتصاد اللبناني. وأضاف: "أعتقد أن كل يوم تأخير، وكل يوم نكد ومماطلة سياسية، سيؤدي الى خسارة جزء من الاقتصاد المتبقي. أما أكثر ما أخشاه، فهو أن تؤدي هذه العملية في حال استمرت، الى انهيار كامل لما تبقى من الاقتصاد".

وذكر أن "ما ينتظرنا خطير للغاية، وذلك لأن في المراحل السابقة، عمد مصرف لبنان، نتيجة للضغوط التي تمت ممارستها عليه، ولرغبته في تلبية السوق، الى طبع مجموعة من الأوراق النقدية، تقدر بحوالي 30 تريليون ليرة، وتم ضخها في السوق كرواتب للقطاع العام، وكمستحقات على الدولة لكي تسيّر أمورها الى حد ما. ولو عاد هذا المبلغ، ودخل الى الدورة الاقتصادية عبر ​النظام المصرفي​، لكان من الممكن أن يعود مصرف لبنان بدوره، الى سدة التحكم، ولكن ما حصل هو أن التريليونات التي كانت توضع في السوق بمعدل 2 تريليون في الشهر، كانت تذهب الى خارج الدورة المصرفية، وخارج حركة ​السيولة​، وبالتالي، فقد المركزي السيطرة عليها، ما دفعه الى اتخاذ قرار حازم، في ظل عدم قدرته تأمين المزيد من السيولة، عن طريق الطبع".

وأضاف: "بالمقابل، لدينا مشكلة في رواتب ​القطاع العام​، لأن إيرادات الدولة في 2020 كان سيئة جدا، وكل التقديرات التي رسمت في ​موازنة​ 2020، لم يحقق منها أكثر من 40%، في حين تعتمد الدولة اليوم على فتات ​المساعدات​، وبعض الاستفادات سواء من جائحة "كورونا" أو تحت مسميات متعددة، وهذا لا يكفي لتمويل الخزينة في الفترة القادمة".

وتابع علامة قائلا: "لدينا مشكلة في تمويل القطاع العام، وفي استحقاق سندات اليوروبوند الجديدة خلال 2021، وفي ​الميزان التجاري​ وميزان المدفوعات، لأن الجميع يعلم أن التدفقات المالية التي كانت ترد الى لبنان من خلال اللبنانيين المغتربين، تراجعت الى حد كبير. وفي هذه الحالة، كيف سيستمر لبنان في حال لم يكن هناك خطة وأداء محكم للخروج من هذه "المصيبة"؟ فنحن لم نعد بحاجة اليوم الى شعارات وأمنيات وتمنيات، بل نحتاج فعليا الى قرار سياسي فوري لتشكيل حكومة وفق المبادرة الفرنسية. ولا يوجد خيار آخر لنا".

وأضاف: "علينا الدخول في مرحلة الإنقاذ، من خلال: أولا، إصلاحات سريعة ودقيقة تتعلق بالقطاع العام، لمعالجة فجوة هذا القطاع، وثانيا، إصلاحات تتعلق بمعالجة الفجوة المالية التي نشأت لدى مصرف لبنان نتيجة طباعتها للسيولة وتحمل ​سندات الخزينة​ والهندسات المالية، وثالثا، خطة محكمة لتعزيز القطاعات الإنتاجية في لبنان، لمعالجة الفجوة على مستوى الميزان التجاري وميزان المدفوعات. هذه الأمور الثلاثة بحاجة الى قرار سياسي سريع، مع التخلي عن كل ما يسمى بالنكد والحصص والزبائنية. فهذه المناكفات، في حال استمرارها، ستضع لبنان في موقع سيء للغاية على المستويين المالي والاقتصادي".