كثُرت التحليلات في اليومين الماضيين حول مضمون كلام حاكم ​مصرف لبنان​ رياض سلامة عن أن "عصر تثبيت سعر صرف ​الليرة اللبنانية​ مقابل ​​الدولار​ ​الأميركي انتهى وأننا نتجه نحو سعر صرف معوم يحدده السوق بناء على المفاوضات مع ​صندوق النقد الدولي​".

لقد أراد سلامة تمرير رسائل الى ما يعنيه الأمر في الداخل والخارج بأنه لن يعارض مطلب "صندوق النقد الدولي" في تعويم سعر صرف الليرة. فهو حتى لو أراد الاستمرار في سياسته التثبيتية لن يكون قادرا على تطبيق هذا الإجراء بسبب الشح الكبير في ​العملات​ الصعبة.

لقد أثار كلام سلامة عن تحرير سعر صرف العملة قلق المواطنين رغم أن هذا الأمر لطالما نادى به ​اقتصاديون​ ومؤسسات مالية دولية، وذلك نظراً لغياب أي رؤية اقتصادية واضحة تضع برنامجاً تمويلياً لمساعدة العائلات الفقيرة التي ستزداد فقراً مع تحرير سعر الصرف.

لكن لماذا اتخذ قرار التثبيت في الأصل؟

مع بداية الحرب عام 1975 دخل لبنان واقتصاده مرحلة الإنهيار التام، ولم تصمد الليرة كثيراً. في العام 1988، انهارت الليرة مقابل الدولار، وظهرت مضاربات واسعة في سوق السوداء، حتى أصبح الدولار الواحد يوازي3 آلاف ليرة في  بداية التسعينات،  بعد أن كان يوازي 2.3  ليرة قبل الحرب.

بعد انتهاء الحرب وتوقيع اتفاق الطائف، دخل لبنان مرحلة جديدة، تمثلت بوجود الرئيس الشهيد رفيق الحريري في الحكم، فعمد وفريقه الاقتصادي إلى تثبيت  سعر صرف الليرة بهدف استعادة ثقة المواطنين والمستثمرين بالاقتصاد اللبناني المنهار أساساً، وبمصرف لبنان. وتم تحديد ​سعر الدولار​ حينها بـ1507 ليرات.

على الرغم من الازدهار والانتعاش الاقتصادي الذي عاشه لبنان في فترة التسعينات وبداية الألفية الثانية،الا أن هذا الإزدهار ظلّ منقوصاً، بسبب الهزات الأمنية والسياسية والتي تزامنت مع وصاية ​سورية​ أنهكت لبنان واقتصاده. فضلاً عن الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة.

هذه الأمور كانت لها انعكاسات سلبية على الإقتصاد عموماً وعلى الليرة خصوصاً، وبالتالي لم تستطع الحكومات المتعاقبة اللجوء إلى تحرير سعر صرف العملة.

في 14شباط 2005 اغتيل الرئيس رفيق الحريري، ودخل لبنان مع هذا الإغتيال حقبة جديدة رافقتها سلسلة اغتيالات وهزات أمنية  واعتداءٌ إسرائيلي في تموز من العام2006 .فضلاً عن انقسامات سياسية حادة ساهمت بشكل او بآخر وعلى مراحل، في هروب الرساميل من لبنان، وبالتالي أصبح موضوع  تحرير سعر صرف الليرة أمرًا مكلفًا جداً على الإقتصاد من جهة وعلى المواطن من جهة ثانية.

واستمرت المهاترات السياسية والانقسامات العمودية في البلاد طيلة السنوات الـ15الماضية، ودخل لبنان في لعبة المحاور الإقليمية ليخسر صداقة العرب ووقوفهم إلى جانبه في أحلك الظروف، كما صداقة معظم العالم الغربي. وبقي بلد ​الأرز​ وحيدًا في ظلّ عواصف المنطقة التي لم ترحم إقتصاده. وسياسيوه الذين لم يرحموا شعبهم بسبب انقساماتهم. فتعطلت البلاد وضعفت معها المؤسسات، وانهارات القطاعات الواحد تلو الآخر.

في ظل هذا التخبط وغياب الخطط الإقتصادية الواضحة، ظلّ مصرف لبنان يُسيّر بالحد الأدنى شؤون الدولة المتخبطة والمفلسة أساساً. مع العلم أن المؤسسات الدولية كانت تُحذر لبنان باستمرار من حصول الانهيار، وذلك عبر تقارير وتوصيات وتصنيفات. الا أن الطبقة الحاكمة لم تأبه لهذه التحذيرات، واستمرت في فسادها ومحاصصتها حتى وصلنا اليوم إلى مرحلة الإنهيار، التي كانت قد سبقتها في تشرين الأول من العام 2019  تحركات شعبية، نتجت عنها استقالة حكومة الرئيس ​سعد الحريري​.

واستمر الإنهيار الإقتصادي، واضمحلت الثقة الداخلية والخارجية في الطبقة الحاكمة، وأصبح لبنان يعيش في عزلة عربية ودولية. كل هذه الأمور انعكستبشكل سلبي على الليرة، التي فقدت قيمتها بشكل تدريجي وأصبح موضوع تحريرها مكلف جدًا في ظلّ أزمة اقتصادية ومالية واجتماعية وسياسية غيير مسبوقة، إضافةً إلى مضاربات كبيرة في ​السوق السوداء​.

لم تنجح حكومة الرئيس حسان دياب في مهمتها ال​إنقاذ​ية، وفشلت في إنقاذ الليرة التي راحت تنهار أكثر وأكثر، وفقد مصرف لبنان القدرة على ضبطتها، حتى لامس الدولار الواحد عتبة الـ 10 آلاف ليرة.

وقد ساهمت قرارت الحكومة المستقيلة،في ضرب الثقة أكثر فأكثر، خصوصًا بعد قرارها في 7 آذار الماضي بالتعثر عن سداد سندات "اليوروبوندز"، هذا فضلًا عن توقف المحادثات مع "صندوق النقد" والتي كانت حكومة تصريف الأعمال قد بدأتها في 13 أيار الماضي.

لبنان اليوم ليس بأفضل حالاته، وكلام الحاكم عن انتهاء زمن تثبيت سعر صرف الليرة، لا يعني أن هذه الخطوة ستحصل بين ليلة وضحاها. فالأمر يتطلب أولًا استقرارًا نقديًا وماليًا، واستعادة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، والبدء بضخ سيولة في الأسواق، سواء من صندوق النقد أو من أي مصدر آخر، وبعد تعزيز احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية. مع العلم أنه كلما تأخرنا بدء التفاوض كلما زادت خسائرنا وتراجعت ​احتياطات​ مصرف لبنان من العملات، وكلما أتى التعويم على سقوف مرتفعة.

هذه الأمور ليست متوافرة اليوم، خصوصًا في ظلّ تعثر ولادة الحكومة العتيدة ووسط غياب أي رؤية اقتصادية حقيقية للمرحلة المقبلة.

ولكن في الوقت عينه لايمكن التغاضي عن المرحلة التي بلغها الوضعان المالي والاقتصادي للبلاد. هذا الأمر بات يُحتم وجود حكومة قادرة على اتخاذ خطوات جريئة نحو الإصلاح الحقيقي، الذي ينتظره المجتمع الدولي من لبنان. فسياسة الاستعطاف لم تعد تنفع لا عربيًا ولا حتى عالميًا. ولكل دولة حساباتها ومصالحها. والجميع قالها ​بصراحة​ "ساعدوا أنفسكم كي نساعدكم".