أما وقد علق ​مجلس النواب​ العمل بقانون ​السرية المصرفية​ لمدة سنة، فان الكرة الآن في ملعب الحكومة لإعادة احياء عملية التدقيق الجنائي في حسابات ​مصرف لبنان​، وسائر مؤسسات وادارات الدولة، فهل تسارع إلى تلقف هذه الخطوة، أم أن الطبقة السياسية الفاسدة التي افلست البلد بسياستها منذ العام 1990 ،ستخرج "أرانب" جديدة للتحايل على القانون الطازج، ووضعه في براد السياسة والتسويف؟

أساليب التمييع التي قد "تتفتق" عن العقل السياسي اللبناني الفاسد كثيرة ومتنوعة. قد يقال أن شركة "الفاريس اند مارسال" خرجت ولن تعود، وينبغي التفاوض والتعاقد مع شركة أخرى، وهذا يتطلب أشهراً طويلة، وقد لا يتم خلال سنة، فتبطل صلاحية قانون التعليق. وقد يقال أيضاً ان القانون تضمن فخاً متعمداً بأن أدخل في ثناياه القرار النيابي السابق الذي تحدث عن التدقيق في كل مؤسسات وادارات الدولة، وهذا يعني تزامن التدقيق فيها كلها، ما يعني انتظار سنوات لايجاد الشركة القادرة على التدقيق في كل مغاور ​الدولة اللبنانية​. عدا عن الحديث عن أي فترة سيشملها التدقيق فيها.

كل هذه الذرائع هي سياسية الطابع، واذا توفرت النية الحقيقية لانجاز التدقيق فسيتم. وهنا لا بد من الاشارة إلى أن القانون حظي بـتأييد سياسي كبير فدعمه نواب التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية و​حزب الله​، ولم تعارضه الكتل الأخرى وخصوصاً كتلة التنمية والتحرير والمستقبل، وهذا بذاته يشكل غطاء سياسياً هاماً للتنفيذ. أما آليات التطبيق فمتعددة، وهي في كل الأحوال من باب التفاصيل، طالما أن القرار قد اتخذ.

قبل البحث بهذه الآليات، ينبغي الاضاءة على خلفيات هذا الإجماع السياسي على تسهيل التدقيق الجنائي من خلال قانون تعليق العمل بالسرية المصرفية، ولنعد الى البداية:

في شهر نيسان الماضي أقرّ ​مجلس الوزراء​ اجراء تدقيق ​مالي​ ومحاسبة مركزة أو "تدقيق جنائي forensic Audit" في حسابات مصرف لبنان، وقرر الاستعانة بالشركة العالمية "كرولkroll " وهي متخصصة للقيام بمثل هذه المهمة. كان الهدف بالدرجة الأولى معرفة كيف سجل المصرف المركزي خسائر تجاوزت 60 مليار دولار، وذلك وفق أرقام "خطة الإنقاذ" الحكومية (التي جمدت لاحقاً). وقد سرّع اتخاذ هذا القرار الخلاف بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة من جهة وبين حاكم المصرف المركزي من جهة ثانية، وهو المتهم بانه لا يتعاون، ولا يكشف حقيقة ​الوضع المالي​ للمصرف.

في شهر حزيران أي بعد مرور نحو 65 يوماً، أُعيد طرح الموضوع في مجلس الوزراء، فأعلن وزير المال غازي وزني (ممثل حركة "أمل") مدعوماً من وزير "حزب الله" عماد حب الله، أنه لن يوقّع العقد مع الشركة المذكورة لأن لها علاقات مع "الموساد" وهذا سيؤدي بشكل تلقائي إلى تسرب معطيات مصرف لبنان إلى العدو ​الإسرائيلي​. كما رفض الثنائي البحث عن شركة أخرى، لأن تكليف أي شركة دولية بإجراء تدقيق مركز جنائي سيفتح الباب أمام التدخلات السياسية الدولية لتوجيه اتهامات جنائية وتشويه الحقائق.

على الرغم من ذلك جرى الاتفاق على تكليف شركة أخرى هي "الفاريز اند مارسال". فانتقلت عرقلة التدقيق إلى مرحلة جديدة تولتها لجنة المال والموازنة في مجلس النواب التي يتهمها البعض بأنها تمثل "كارتيل ​المصارف​ "، المتهم الأول بتبديد ودائع الناس، فوضعت هذه اللجنة أرقاماً مغايرة للأرقام الحكومية عن الخسائر، وتسببت بوقف المفاوضات مع "​صندوق النقد الدولي​" الذي كان يصر على توحيد ارقام الدولة. وصفقت معظم القوى السياسية لـ"انجاز" اللجنة، ولا عجب فزعماء وقيادات هذه القوى، هم مالكو حصص رئيسية في المصارف، ويعنيهم بالتأكيد اعادة تحويل اتجاه توزيع الخسائر والمديونية، وتحميلها للناس.

ما حدث مع "شركة الفاريز اند مارسال" بعد ذلك معروف، فقد جرى تطفيشها بكل بساطة. ولكن المجهول في هذه المسألة هو كيف عجزت الحكومة التي اتخذت قرار التدقيق عن ايجاد آلية فرض تنفيذه، علماً أن معظم خبراء القانون والدستور أكدوا امكانية ذلك، كما نشر موقعنا (الاقتصاد) سلسلة مقالات تثبت ذلك.

الطبقة السياسية تعمدت عرقلة التدقيق، وعقدت صفقة مع البنك المركزي، كي لا يتجرع هذه الكأس، وحاولت اسكات الناس وتنفيس الاحتقان، فبعد الدعم شبه الكامل للسلع الاستراتيجية (المحروقات و​القمح​ والدواء)، بنسبة 85 أو 90%، دعم مصرف لبنان السلة الغذائية (200 سلعة)، وقدم تسهيلات كبيرة لشراء المسلتزمات الطبية، والمكونات التي تُستخدم في الصناعة والزراعة، هذا بالإضافة إلى ضخ كميات كبيرة من ال​دولارات​ إلى شركات الصيارفة لتقديمها للمواطنين.

هذه الاجراءت لم تخدم فعلياً المواطن، فبقيت السلة الغذائية محدودة التأثير، واستفاد منها مستوردو وتجار الاغذية، وذهبت الدولارات الاضافية في السوق الى كبار الصيارفة وتجار ​العملات​ الصعبة وتهريبها عبر الحدود، أو ذهبت إلى أصحاب المصارف وحولوها الى الخارج. أما فوائد دعم المستلزمات الطبية والمواد الصناعية والزراعية فذهبت إلى كبار المستوردين، ولم تنعكس هذه الخطوة تخفيضاً للأسعار ولكلفة المعيشة.

المهم في المسألة أنه مع بدء الحديث عن نفاد الدولارات في مصرف لاستمرار الدعم،بكليته، والاقتراب من الاضطرار للمس باحتياطي الالزامي للمركزي، تكون الصفقة السياسية مع المركزي قد انتهت، ووصل الجميع الى الحائط المسدود. الطبقة السياسية ترمي كرة نار رفع الدعم على "المركزي" الذي يرد بدوره بالقول أنه سيصمد شهرين فقط .

السياسيون​ هربوا إلى الأمام باقرار تعليق السرية المصرفية والتلويح به لحاكم المركزي، الذي تبلغ الرسالة وبادر فوراً إلى طمأنة الناس، بالأمس تحديداً (21 كانون الأول 2020)، في اليوم نفسه الذي أقر مجلس النواب قانون تعليق السرية المصرفية، فاعلن أن لديه ملياري دولار من أجل استمرار الدعم بعد ترشيده.

وهنا يبرز سؤال هام عن التباين في تصريحات الحاكم، وعن حقيقة ما لديه من دولارات لادامة الدعم. وهل يخفي أمراً ما ؟

بعض الخبراء يقولون إن المركزي استطاع خلال الأشهر الماضية من شراء عشرات أو مئات ملايين من الدولارات من ​السوق السوداء​، عبر وسطاء بالطبع، مستفيداً من المبالغ الهائلة بالليرة اللبنانية التي طبعها أخيراً. وبالتالي فإنه قادر على الاستمرار بالدعم خصوصاً إذا استمر في طبع الليرة وضخها في السوق و"شفط" الدولارات بالمقابل. ولكن الثمن هو مستويات قياسية جديدة من ​التضخم​ وارتفاع الأسعار.

في كل الأحوال، هي لعبة جهنمية تتقنها مؤسسة الاحتراف السياسي، بالتعاون مع الطغمة المالية، وتلعب بها بمصائر الناس. والنتيجة الحتمية هي المزيد من المعاناة للمواطنين.

هل من حل ؟

اليوم وأكثر من اي وقت مضى، يمكن للمجتمع المدني وللقضاء، لعب الدور الحاسم. ففي غياب الحكومة، لأنها مستقيلة ومتخلية عن واجب تصريف الأعمال، وقبل أن تخرج السلطة "ارانب" تمييع قرار التدقيق، يتوجب على المنظمات القانونية والحقوقية، ونقابة المحامين، وتجمعات المحامين المستقلين الشرفاء، تولي المبادرة، والاستفادة القصوى من تعليق السرية المصرفية المؤقت، وتنظيم دعاوى قضائية محددة وجدية ضد كل من تلاعب بالمال العام، سواء عبر الهندسات المالية، أو تهريب العملات الصعبة إلى الخارج، أو المضاربة على الليرة، أو سرقة دولارات دعم المواد كافة.

هذه الدعاوى ستكشف الكثير، وستشكل إذا اجتمعت كلها، تدقيقاً جنائياً موازياً ومساعداً، أو حتى بديلاً من تدقيق الحكومة الذي قد لا يتم. ومن واجب القضاء تلقف هذه الدعاوى والبت بها بسرعة من أجل وقف النزيف والانهيار.

قد يقول البعض أن هذه الجهود لن تؤتي ثمارها في الوقت المناسب، وأنها لن تمنع افلاس البلد، لأن التدقيق لن يفصح إلا عن حقيقة واحدة مؤلمة ومفجعة، وهي أن الافلاس حصل وقضي الأمر. ولكن من الضروي كشف المستور كخطوة ضرورية لا بد منها من أجل تلمس سبيل النهوض، سواء عبر المساعدة من الخارج، أو من خلال قوانين جديدة تعيد ​الأموال المنهوبة​ والمسروقة من الخارج... ولا شك أن الطبقة السياسية ستقاوم، وقد كشرت عن أنيابها بالأمس، فهي اذا اقرت في مجلس النواب تعليق السرية المصرفية، فانها لا تزال تمانع اقرار "الكابتال كونترول"، والأهم أنها أرجأت مرة أخرى قانون استعادة الأموال المحولة إلى الخارج بعد 17 تشرين.. ولهذا الأمر دلالة كبرى.

"صندوق النقد الدولي" أبدى استعداده لمد يد العون، والمبادرة الفرنسية قدمت خارطة طريق جدية للمساعدة، والمؤسسات المختلفة في ​المجتمع الدولي​ قادرة ومستعدة للمساهمة في الانقاذ.. إلا أن الشرط الأول هو الاصلاح، وقبله تحديد الخسائر. وهذا هو الهدف من التدقيق الجنائي.