بعد أن طمأننا حاكم ​مصرف لبنان​ رياض سلامة لسنوات وسنوات، أن "الليرة بألف خير"، عاد مجددا لـ"بث الأمل في النفوس"، بقوله أن "أموال المودعين موجودة في ​المصارف​"، ليعلن في المقابل وزير المال أن الاحتياط الإلزامي هي أموال الناس. وفي حين أكد سلامة العودة التدريجية لإنتظام العمل المصرفي ابتداء من آذار المقبل، بعد أن يكون القطاع قد أنجز عملية رفع الرأسمال المتوقعة في شباط، بعد طمأنتنا مجددا بأن "لبنان ليس بلدا مفلسا"، جاءت الصدمة المستجدة على لسان نائبه، الذي بشّرنا أنه "لم يتم عدّ الذهب الموجود لدى مصرف منذ عام 1996".

وإثر تخلف الحاكم عن حضور جلسة اللجان النيابية المشتركة، المخصصة لدرس وضع الدعم والاحتياطي، لا بد أن نسأل: لماذا هذا التهرب؟ هل يعيش الحاكم في حالة من الـ"denial" أو "الإنكار"؟ أم أنه مستمر في تغطية فساد الطبقة الحاكمة؟

انطلاقا من هذه الوقائع، كان لموقع "الاقتصاد"، مقابلة خاصة مع عضو هيئة ​المجلس الإقتصادي​ والإجتماعي، د. أنيس بو دياب، الذي أوضح أن "حاكم مصرف لبنان تغيب بالأمس عن حضور جلسة اللجان كشخص، ولكن الحاكمية حضرت بشخص النائب الثالث، وبالتالي هل هو يتهرب؟ قد يكون لا يرغب في مواجهة النواب لزيادة الطروحات الشعبوية، وهل كان هناك ضرورة شخصية لحضوره؟ وهل أن حضوره الشخصي سيحل تعقيدات الدعم وأزماته؟ لا أعتقد ذلك، حيث أن المشكلة الأساسية في مكان آخر، وليست في ظل حضور أو غياب شخصي للحاكم".

كما أوضح أن قرار الاستمرار بسياسة الدعم، لا يعود للسلطة أو للمجلس المركزي لحاكمية مصرف لبنان، بل يعود الى السلطة التنفيذية أي الحكومة و​وزارة المال​ والاقتصاد والشؤون الاجتماعية.

كما لفت د. بو دياب الى أن الحاكم في إطلالته الإعلامية الأخيرة، أشار الى إمكانية تأمين الدعم بالآلية ذاتها، لمدة شهرين، وبالتالي، كان يطلب بشكل مباشر من السلطة التنفيذية اتخاذ قرار في هذا الشأن لأن المساس بالاحتياطي غير مقبول بالنسبة له. وأضاف: "إن اللجوء الى أموال الاحتياطي يحتاج الى قرار في مجلس الحاكمية، الذي تم تأجيله بعد الإعلان عن اللجان النيابية بالأمس، وذلك لتضييع "الشنكاش" على ما يبدو".

وأوضح أن "التخوف اليوم هو من الإبقاء على آلية الدعم ذاتها، لاستنزاف آخر قرش في الاحتياطي، وخلال الاجتماع القادم لمجلس الحاكمية سيتخذ قرارا إما بخفض نسبة الاحتياطي الإلزامي، وإما بالإبقاء عليه، وبالتالي وقف الدعم بالآلية المتبعة، أو ترشيده". وقال: "لا يحق لمصرف لبنان أن يقرر وقف الدعم، وهذا الأمر مناط بالسياسة المالية التي تحددها السلطة التنفيذية، فالمصرف المركزي يضع ​السياسة النقدية​، أي الإجراءات النقدية، كالتعاميم ورفع الفائدة وإعادة سعر الخصم والسوق المفتوحة وغيرها".

تابع د. بو دياب قائلا: "برأيي، المساس بالاحتياطي هو دق المسمار الأخير في نعش ودائع الناس، مع العلم أنني أتخوف من الذهاب الى نفس آلية الدعم على السلع، لأهداف شعبوية من قبل السياسيين. اذ أن مافيا التهريب تحكم البلاد، وهي المستفيد الأول من الدعم، في حين لا يستفيد منه اللبناني الفقير؛ فقد أثبتت التجارب أن نصف الدعم يتم تهريبه الى الخارج، والنصف الآخر الذي يبقى في لبنان، يستفيد الأغنياء من 70% منه، بينما تبقى نسبة 30% فقط للفقراء".

وسألت "الاقتصاد": "قال سلامة أن أموال المودعين مع المصارف، وبالتالي، ورمى الكرة الى ملعبها. على ماذا يدل هذا المسار؟"، فأجاب د. بو دياب أن "ذلك يدل حتما على تخبط كبير، وعلى أننا في أزمة نقدية ومالية واقتصادية كبيرة".

وأوضح أنه من الناحية القانونية، لم يضع صاحب الوديعة وديعته في مصرف لبنان، بل في إحدى المصارف، وبالتالي، فإن علاقته المباشرة هي مع المصرف التجاري. ولكن هذا الأخير أقرض أمواله للمصرف المركزي، الذي يقول أنه أعطى ​الدولة اللبنانية​ ومؤسساتها هذا الاقتراض، كما عمل على تثبيت سعر الصرف الذي يعتبر مكلفا بالنسبة له. ومن هنا، لا بد من العودة الى نقطة الأساس، حيث لا يمكن حل المشكلة القائمة، الا من خلال تشكيل حكومة ووضع خطة متكاملة للتعافي الاقتصادي بالتعاون مع المؤسسات الدولية و​صندوق النقد​، وغير ذلك عبثا نحاول! وأضاف: "كل الإجراءات الأخرى توضع في خانة المماطلة وإبر المورفين المؤقتة، وستزيد من صعوبة التعافي وإعادة النمو".

كما لفت الى أن النزاع موجود، والمودع هو الحلقة الأضغف، كونه يتحمل فعليا كل الأعباء، لذلك، لا بد من قيام حكومة تعيد دراسة الأعباء واحتسابها. فالخسارة وقعت، ولا بد من توزيع الخسائر كما تم توزيع الأرباح؛ فالمودع كان يربح الكثير من النظام الذي كان قائما في تلك الفترة، في حين أن خسارته اليوم ستكون أكبر.

وذكر د. بو دياب أيضا، أن توزيع الأعباء والخسائر يجب أن يتم بطريقة متناسبة مع عملية توزيع الأرباح التي حصلت في السابق.

وحول موضوع غياب الإحصاء الرسمي والفعلي لكميات الذهب منذ عام 1996، أوضح أن الإحصاء الفيزيائي، أي ما يعني القيام بتعداد أوقية الذهب، ليس مهما طالما أنه مؤتمن عليه؛ حيث من الممكن القيام بجردة كل 20 أو 30 سنة، لكن الأمر ليس ذات أهمية كبرى، بل من المهم احتساب هذا الذهب من ناحية قيمته الذاتية وتغير سعره وفقا لسعر السوق، وذلك كل 15 يوما، كما يظهر في ميزانية المصرف المركزي.

وأكد أن التركيز على هذا الموضوع ما هو إلا محاولات لخلق مشكلات ثانوية، لغض النظر عن المشكلة الأساسية، أي الشح الكبير في ​الدولار​، واستنزاف ودائع الزبائن والاحتياط الإلزامي الموجود. وقال: "إنها مجرد معارك وهمية للتغطية على المعركة الأساسية فقط لا غير".

أما بالنسبة الى سعر الصرف في الأسابيع المقبلة، فأوضح د. بو دياب لموقع "الاقتصاد"، أن التعميم الأخير لمصرف لبنان، حول تقليص حجم السحوبات بالليرة اللبنانية، حافظ بشكل أو بآخر على ضبط الطلب على الدولار؛ حيث لم يعد المواطن يمتلك الأموال النقدية بالليرة لشراء الدولار من ​السوق السوداء​، ما أدى الى خفض الطلب على الدولار. لكن هذا الإجراء ينعكس سلبا أيضا على الاقتصاد والنمو، كونه يزيد ​الركود​.

وتابع قائلا: "المشكلة الثانية في الدولار هي أن سوقه الموازي صغير جدا، وبالتالي، فإن أي مضاربة قد تؤدي الى تغير في سعره؛ فمنذ حوالي ثلاثة أيام، انخفض الى 7700 ليرة، ومن ثم ارتفع مجددا الى 8100 خلال يومين. وهذا هذا الفرق بين ساعة وأخرى، لا يمكن أن يحصل في الاقتصاد الكبير، ولكن المبالغ المتراوحة على سبيل المثال بين 30 ألف دولار أو حتى 100 ألف دولار في السوق بشكل يومي، ستغير حتما باتجاه الصرف صعودا أم هبوطا.

كما لفت الى أنه في حال قدوم المغتربين اللبنانيين الى لبنان، لقضاء فترة الأعياد، فسيحضرون معهم حكما العملات الأجنبية لصرفها، وهذا التوجه يدفع من يخزّن الدولار أو يملكه، الى البدء خوفا من هبوطه، كما أن البعض سيعمد الى بيعه ليصرف خلال هذه الفترة، ما سيحافظ على سعر الصرف بنسبة مقبولة، ولكن أي هزة، سلبية كانت أم إيجابية، سوف تغير اتجاهه".