كشف مصدر رسمي لوكالة "​رويترز​"، أن ​​مصرف لبنان​ يدرس خفض مستوى احتياطي ​​النقد الأجنبي​​ الإلزامي، من أجل مواصلة دعم واردات أساسية خلال العام المقبل، مع تضاؤل الاحتياطيات المنخفضة بالفعل. وقال أن الحاكم ​رياض سلامة اجتمع مع الوزراء المعنيين في حكومة تصريف الأعمال، وكان أحد الخيارات قيد الدراسة خفض نسبة الاحتياطي الإلزامي من 15% إلى نحو 12% أو 10%، حيث أن احتياطيات النقد الأجنبي تبلغ حاليا حوالي 17.9 مليار، في حين لم يتبق سوى 800 مليون دولار لدعم واردات ​الوقود​ و​القمح​ و​الأدوية​ حتى نهاية العام الجاري.

فما هي تداعيات هذه الخطوة؟ هل تعتبر بمثابة غطاء لتحرير الأموال وتهريبها الى الخارج في ظل غياب قانون الـ"كابيتال كنترول"؟ ماذا سيحل بأموال المودعين في هذه الحالة؟ هل هناك من بديل سريع وأكثر فعالية؟...

للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها، كان لموقع "الاقتصاد"، مقابلة خاصة مع الخبير الاقتصادي د. بلال علامة، الذي أوضح أن تحديد نسب الاحتياطي الإلزامي يحصل بموجب تعميم صادر عن مصرف لبنان، بالاتفاق مع جمعية ​المصارف​. وبالأساس، كان هذا الاحتياطي يبلغ من سنوات 10%، ثم تم رفعه الى 11%، وبعدها الى 15%، ما يعني أن المصرف المركزي كان يرفع تدريجيا نسب الاحتياط، بهدف تعزيز ضمانة ​المصارف التجارية​، خاصة بعد أن بدأ الحديث عن اهتزاز وضع بعض المصارف".

وقال: "في هذه المرحلة، نعلم جميعا أن الاحتياطي الإلزامي يجب أن لا يمس، وذلك ضمن النسبة المحددة من قبل مصرف لبنان، ولكن نتيجة لفقدان الأموال من خارج هذا الاحتياطي، والتي يكونها المركزي بالعادة من حركة السوق، وكمؤنة لتمويل عمليات الاستيراد والتجارة وللمصارف، قد يتم اتخاذ هذه الخطوة؛ اذ بقي مبلغ 800 مليون دولار مخصصة للدعم، كما يحكى، مع العلم أنه لم يصدر الى حد الآن، أي رقم رسمي حول هذا الموضوع".

وأشار د. علامة الى أن مبلغ الـ800 مليون دولار، يكفي حتى قبل نهاية العام الجاري، أي قبل ​عيد الميلاد​، وبالتالي، سيقع مصرف لبنان في مشكلة عدم وجود الأموال. وقال: "بالمقابل، السلطة السياسية بكل مكوناتها، ترفض بأي شكل من الأشكال رفع الدعم، وهي مستعدة للتضحية بالمزيد من الأموال من الاحتياطي الإلزامي؛ وهنا تكمن الخطورة الأكبر. فهم ليسوا من المودعين، حيث باتت جميع أموالهم في الخارج، وبالتالي، لا يهتمون بزيادة مشاكل المودعين، وابتعادهم أكثر فأكثر عن إمكانية حصولهم على أموالهم".

كما لفت الى أن "الدعم اقتصر على ​المحروقات​، الدواء، والغذاء بالحد الأدنى؛ اذ تم خفض عدد ​السلع الغذائية​ المدعومة، من 300 سلعة الى 90 سلعة، وربما سيتم شطب المزيد من السلع في المرحلة المقبلة، وذلك من خلال عملية ترشيد الدعم. مع العلم أن ذلك سيؤثر من نواح أخرى، كالمتطلبات الصناعية والمواد الأولية، حيث من الممكن أن ترتفع الأسعار مجددا، ولكن هذا الارتفاع سيبقى محدودا، خاصة بعد صدور بيان رسمي عبر لسان مدير عام وزارة الاقتصاد، يؤكد فيه أنه تم الكشف عن الكميات المستوردة من السلع التي لم تعد مدعومة، وستكون كافية لفترة طويلة، قد تترواح من 8 أشهر الى سنة".

هل خفض الاحتياطي هو الخيار الوحيد؟

يقول د. علامة لـ"الاقتصاد": "من حيث المبدأ، أقفلت سبل التمويل، ولم يعد هناك من إمكانية لاستقطاب ​العملات​ الأجنبية، لهذا السبب، سيضطر مصرف لبنان بشكل أو بآخر، الى تخفيض الاحتياطي الإلزامي بنسبة معينة، لكي يستخدم هذه الأموال في عملية الدعم".

وأوضح أن النسبة التي يحكى عنها، تتمثل في تخفيض الاحتياطي من 15% الى 12% أو 13%، أو ربما الى 11% أو 10%، من أجل تحرير مبلغ 3.5 مليار دولار، تكفي – في حال تم ترشيد الدعم – لمدة سنة ونصف.

ماذا سيحل بأموال المودعين؟

وأضاف: "هذه العملية، خطيرة للغاية، في حال حدوثها، خاصة أنه خلال كل الفترة الماضية، كانت سلطة حاكمية مصرف لبنان والأجهزة المعنية تحاول الحصول على الأموال النقدية، عبر إصدار تعاميم الـ"fresh money"، والتحاويل، وغيرها، إضافة الى منع كل ​التحويلات المالية​ الى الخارج من أجل تأمين العملات الأجنبية، ولكن ذلك لم ينجح على الإطلاق. ومن هنا، اذا فشلت المحاولات في كل تلك الفترة، فما الذي يؤكد لنا أنها ستنجح في السنة المقبلة، وسيتم استعادة المبلغ الذي سيوضع بتصرف الدعم؟".

وتابع د. علامة قائلا: "هذه عملية تضم نسبة عالية جدا من المخاطرة، وبالتالي، اذا صرفنا الأموال ولم نتمكن من تحصيل غيرها – سواء عن طريق المساعدات أو الهبات، أو حركة السوق والتدفقات المالية من الخارج – سنكون أمام خطر جدي بأن يخسر المودعين المزيد من ودائعهم".

وأضاف: "نحن نعلم أننا لم نخسر حتى الآن، كل الأموال المودعة في المصارف، بل فقدنا نسبة منها فقط، تتراوح ما بين 50% و60%. فاذا كانت هذه الفجوة موجودة بالأساس، وأضفنا اليها تخفيض الاحتياطي، الذي ينذر بارتفاعها الى 70% أو 80%، سنكون بخطر أشد".

كما لفت الى أنه "من الطبيعي أن أي مصرف، في حركة الاقتصاد العادية – أي ​التسليفات​، ​الاستثمارات​، ​المحافظ الائتمانية​ المحلية أو الخارجية – سيكون غير قادر على تأمين كل الودائع في حال طلبت في لحظة واحدة. لذلك، راهنت ​جمعية المصارف​، وبعض المصارف التجارية أيضا، على الوقت، من أجل استنزاف الودائع بطريقة "رقيقة"، وتم بطريقة معينة إقفال حسابات معظم المودعين الصغار، لكي تبقى المشكلة محصورة مع المودعين الكبار".

التهريب الى الخارج... هل هو قابل للضبط؟

أشار د. علامة لموقع "الاقتصاد"، الى أنه "ثبت في الوجه القانوني والإداري، أنه لا يوجد سبيل لضبط هذه العملية، لا بل تقف السلطات عاجزة أمام كل عمليات التهريب التي تحصل، سواء تلك المنظمة أو الفردية "على عينك يا تاجر". والأخطر في الموضوع، أن كل عمليات الضبط المالي التي حاول ​حاكم مصرف لبنان​ القيام بها خلال السنة الحالية، لم ينجح من خلالها، في لجم ​الكتلة النقدية​ الموجودة خارج إطار الدورة المصرفية والمالية اللبنانية الرسمية، لا بل إن التقديرات في مطلع العام 2020، كانت تشير الى أن هذه الكتلة المالية والنقدية قد تصل الى 5 مليار دولار، في حين أن التقديرات اليوم تكشف أنها تفوق الـ10 أو 12 مليار دولار، وبالتالي، تخطت إمكانيات كل السلطة في لبنان – أي أن الدولة اللبنانية، مع حاكم مصرف لبنان، والمصرف المركزي ومؤسساته، غير قادرة على ضبطها".

وأوضح أن هذه الكتلة تشكل اقتصادا موازيا خارج الاقتصاد الرسمي، وأقوى منه حتى، ومن هنا، بات من المستحيل ضبطها إلا اذا وجدت سلطة قادرة على اتخاذ قرارات جريئة، وليس على قاعدة قمع هذا الاقتصاد، بل عبر قوننته، أي إدخاله ضمن الدورة الاقتصادية، بحيث يصبح من المتوجب عليه أن يدفع الضرائب المستحقة عليه للدولة. وانطلاقا من هذا الواقع، سيصبح حينها جزءا من الاقتصاد الوطني، وسيسهم الى حد ما، في "تغذية"، خزينة الدولة.

وأضاف د. علامة: "نحن بحاجة الى قرار سياسي وسيادي في الموضوع، فالدولة اللبنانية بدأت تتهاوى من خلال ممارسات السلطات المتعاقبة تباعا منذ 20 سنة الى حد اليوم، وذلك نتيجة للتفريط بما يسمى "السيادة". مع العلم أن النقد والمال عملية سيادية، القوانين والأنظمة عملية سيادية، الحدود و​الجمارك​ عملية سيادية، القضاء وتطبيق الأحكام القضائية عملية سيادية،...". وقال: "لقد أفرطت السلطات في مفهوم السيادة على الأصعدة كافة، حتى وصلنا الى ما نحن عليه اليوم من التحكم اللاسيادي بكل الواقع السيادي؛ ومن ضمنها المال والاقتصاد والدورة الاقتصادية خارج نطاق سلطة الدولة".

وأكد أنه من المستحيل قيام أي معالجة جذرية للمشاكل القائمة، إلا بقرار سياسي جريء، يتم من من خلال القوننة.

ماذا ينتظرنا في المرحلة المقبلة؟

أوضح د. علامة أن المرحلة المقبلة ستشكل استمرارية للمرحلة القائمة حاليا، ولكن أخطر ما فيها، يمكن في غياب أفق حلول، حيث أن مبلغ الـ3.5 مليار دولار الذي من الممكن أن يحرره مصرف لبنان من الاحتياطي، قد يُهدر ولا يُسترجع، وبذلك، ستزداد فجوة المودعين، وستتفاقم مشكلة ​القطاع المصرفي​، لأن الناس فقدوا بالأساس الثقة بهذا القطاع، في حين لم يتمكن هذا الأخير من استرجاعها خلال سنة مرت.

وأكد أن استعادة الثقة تتطلب إجراءات جريئة، سنوات طويلة، ضمانات، إضافة الى تعزيز الوضع المصرفي؛ فبدلا من هدر أمواله، يجب البحث عن كيفية تعزيز أوضاعه.

البديل عن خفض الاحتياطي ما زال ممكنا...

ذكر د. علامة أيضا، أنه "يمكن لمصرف لبنان أن يسحب من أموال الاحتياطي الإلزامي مبلغ 5 مليار دولار، ويؤسس صندوقا استثماريا. وهذا المبلغ يكون ضمانة لاستقطاب أموال بالمفهوم الاستثماري، وخاصة مِن مَن لديهم أموال خارج نطاق الدورة المالية؛ فهم يضعون أموالهم، ويصبحون شركاء في تحصيل الأرباح من خلال عملية الدعم التي ستحصل. ورغم أن هذه الأرباح ستكون بنسب صغيرة، لكنها ستحافظ على الأموال المستخدمة كضمانة، وستبعدها عن شبح الهدر، وبالتالي، يمكن للمركزي إعادتها بعد فترة الى مكانها الأصلي".

وقال: "من الممكن أن يستقطب هذا الصندوق أيضا استثمارات من الخارج، أي الـ"fresh money"، في حال أراد أحد اللبنانيين المغتربين المقتدرين، الاستثمار وجني بعض الأرباح".

وأضاف: "ما نعرفه اليوم أن الودائع في كل القطاع المصرفي "ماتت"، ولم تعد مربحة على الإطلاق، أكان بالمفهوم الريعي أو الاستثماري، وبالتالي، فإن هذه العملية، في حال قام بها الحاكم أو المجلس المركزي لمصرف لبنان، ستكون نافعة للبلد من جهة، وستحافظ على أموال المودعين من جهة أخرى. مع العلم أنها بحاجة الى قوانين وتشريعات، ولكنها قابلة للتطبيق خلال هذه الفترة القصيرة".