عندما بدأ مسلسل الانهيار المالي وجرى اقتراح حل اللجوء الى ​صندوق النقد الدولي​ كخيار مؤلم لاقتراض ما يقارب 10 مليارات دولار تجنبا للسقوط المريع، تحدث بعض الخبراء، عن حق، عن مخاطر هذا الخيار لان اي برنامج تمويلي للصندوق يتضمن شروطا قاسية على لبنان، بحيث يصير هذا الصندوق وصيا على القرار المالي اللبناني.

الشروط التي كان سيفرضها الصندوق معروفة، مثل تحرير سعر الصرف، ورفع الدعم عن المواد الاساسية، وزيادات ضريبية هامة، وابرزها الضريبة على القيمة المضافة. وكانت الخشية من ان تؤدي هكذا اجراءات الى ثورة شعبية نتيجة لتداعياتها الحادة على معيشة المواطنين.

بالاضافة الى هذه كان ثمة مطالب اصلاحية يعتبرها صندوق النقد شروطا اساسية للنهوض الاقتصادي، وهي بالفعل ضرورية لانها كانت لتوازن الاضرار التي تسببها الشروط السابقة الذكر، وتشكل المقابل المجدي للتضحيات المطلوبة من اللبنانيين، وهذه المطالب عادت الورقة الفرنسية لتعرضها كاجراءات حاسمة للانقاذ. وابرزها: التدقيق الجنائي في حسابات ​مصرف لبنان​، تخفيض حجم ​القطاع العام​، اصلاح قطاعي ​الكهرباء​ والاتصالات وغيرهما، واطلاق ورشة اصلاح الادارة والمؤسسات العامة.

تحرر سعر الصرف في ​السوق السوداء​ وفقدت ​الليرة اللبنانية​ تسعين في المئة من قيمتها، وارتفعت اسعار المواد الغذائية وسائر السلع اربعة او خمسة اضعاف، اي بشكل تجاوز باشواط ما كان ستؤدي اليه زيادة الضريبة على القيمة المضافة لو حصلت في وقتها. وها هي قطاعات حيوية مثل الاستشفاء و​التأمين​ وخدمات اخرى تنتقل الى دولار المنصة (4000 الاف ليرة ).. في الطريق الى رفع الدعم المتبقي على بعض السلع، ما يعني اننا سنصل عاجلا وليس آجلا الى اعتماد السعر "الاسود" الحالي للدولار او اكثر.

هل تحققت شروط صندوق النقد بقوة الامر الواقع؟

بالتأكيد لا. ثمة من دفع بهذا الاتجاه عن قصد وتعمد. ولكن ليس لتطبيق كل برنامج الصندوق واقعيا، بل لجزء منه فقط، وتحديدا ما يصيب الطبقات الشعبية، من دون تنفيذ القسم الثاني الذي يوازن هذه الاضرار. فان كانت الاجراءات غير الشعبية ضرورية لتمرير مرحلة الانهيار، فان الاجراءات الاصلاحية كانت ضرورية اكثر لتحصين البلد والمضي الى اعادة البناء.

التدقيق الجنائي سقط، لان الطبقة السياسية المتحكمة بالبلد منذ العام 1990 لا تريد فضح سرقاتها وهدرها للمال العام. كما اجهض اي احتمال لتقليص حجم القطاع العام لانه بكل بساطة يعني طرد عشرات الاف الطفيليين من الحزبيين والمرتزقة والاتباع خارج ادارات الدولة، وهم فئة المحظيين الذي لا يعملون، وكذلك فان اصلاح قطاعي الكهرباء والاتصالات لم يتم، لانهما البقرة الحلوب التي تغذي الصناديق السوداء للطبقة السياسية. ويمكن قول الامر نفسه عن قطاعات عديدة.

ماذا يجري في لبنان ؟

هناك شعب جائع وهناك عصابة لا تشبع.

العصابة رفضت اقرار الكابيتال كونترول هذه السنة كي يتمكن اللصوص الذين لم يهربوا اموالهم المنهوبة منذ العام 2017 وخلال الاعوام 2018 و2019 و2020، من استلحاق انفسهم، ويحولوا ثرواتهم المشبوهة الى الخارج، وقد فعلوا.

العصابة "تمنت" عبر مصرف لبنان من البنوك ان تعيد الرسملة بزيادة 30 في المئة من دون ان تضع الاجراءات اللازمة لفرض ذلك. فتناقص احتياطي مصرف لبنان بشكل خطير للغاية. علما ان عشرات مليرات ​الدولار​ات هربت وهي موجودة في الخارج.

العصابة قررت ان يكون الدعم عشوائيا وغير مراقب او مضبوط فتحولت دولارات مصرف لبنان الى جيوب كبار ​التجار​ والمهربين... ومن يحميهم من الاحزاب والسياسيين.

العصابة عرقلت باقتدار اي تطبيق فعلي لقانون استعادة الاموال المنهوبة، كما عرقلت تطبيق اي قانون يكافح ​الفساد​ والاثراء غير المشروع.

والعصابة اخيرا قضت على خيار الاقتراض من صندوق النقد الدولي، بان خلقت الظروف لتطبيق شروطه القاسية والمضرة، التي تطال الشعب، واجهضت بكل اصرار شروطه الاصلاحية التي تدك منظومة الفساد.

والآن فان المفارقة العجيبة ان الفقراء الذن اعتبروا ان الصندوق كابوس وشر لا بد منه صاروا هم من يريدونه وصار القرض منه مجرد حلم، فهذه المؤسسة الدولية المرموقة وضعت الاصبع على الجرح اللبناني، وطلبت من الطبقة السياسية ان تقدم الارقام الحقيقية للخسائر التي تسببت بها، وهي تبلغ 55 مليار دولار، على الاقل.

الطبقة السياسية راوغت وتحايلت واهدرت الوقت، وحتى الارقام التي لا تكذب، جرى تزويرها، باللعب عل الكلمات بين وزارة المال من جهة ولجنة المال والموازنة من جهة ثانية وبين الخبراء من جهة ثالثة. اما صندوق النقد الذي يعرف الحقائق فقد سخر من الجميع، واسف على اللبنانيين المخدوعين بسياسييهم.

صندوق النقد الدولي قد يكون الملاذ الآخير، لتدعيم احتياطات المركزي لابقاء الدعم على السلع الاساسية ووقف تدهور الليرة. فالتقديرات تشير الى ان رفع الدعم سيعني ازديادا هائلا في الطلب على الدولار ما يرفع سعره الى 15 الف ليرة. ويعترف سياسيون من اهل السلطة ان نتيجة ذلك ستكون ​المجاعة​ وتفكك الدولة.

ولكن هل سيدفع الصندوق؟ ولمن؟ واين الحكومة التي ستفاوضه؟

العصابة لا تريد تشكيل حكومة اصلاحات للاسباب الانفة الذكر.

العصابة تمانع وتقاوم الاصلاحات وتجهضها، ومن أجل ذلك تثير غضب ​المجتمع الدولي​، بعد ان اثارت سخط اللبنانيين، ولكنها تراهن على تغييرات اقليمية ودولية في السياسة، تصرف الاهتمام الفرنسي (مثلا) بلبنان، بحيث تتمكن مع الوقت من امتصاص نقمة العالم، بعد ان نجحت باجهاض الانتفاضة الشعبية بالكذب والقمع والتلويح بالحرب الاهلية فدفعت البلد الى حافة الانهيار.

الحروب​ الاهلية قد تندلع لاسباب اجتماعية عندما يجوع الناس، ولكن في لبنان ثمة طبقة سياسية احترفت الحرب والقتل سابقا، وامتهنت السرقة والفساد في السلم لاحقا، وهي غير مهتمة لما يحدث في الغد، ففي الحرب ستكون لها احزابها وميليشياتها، وستستمر اعمالها.. وتزدهر أيضا.