بفعل الضربات المتتالية من القوى السياسية وعدم تعاون حاكم ​مصرف لبنان​، نُسف التدقيق الجنائي أو علّق مرحلياً كما يقول أهل السّلطة.

ساهمت شمّاعة ​السرية المصرفية​ وذريعة قانون النقد والتسليف في وقف هذا المسار، وهي الحجج التي استند عليها حاكم المصرف المركزي، في تبرير عدم تسليم المستندات المطلوبة لشركة "ألفاريز آند مارسال" التي أبلغت وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني بإنهاء الاتفاقية الموقعة مع وزارة المال للتدقيق المحاسبي الجنائي، بسبب "عدم حصول الشركة على المعلومات والمستندات المطلوبة للمباشرة بتنفيذ مهمتها، وعدم تيقنها من التوصل إلى هكذا معلومات حتى ولو أعطيت لها فترة ثلاثة أشهر إضافية لتسليم المستندات المطلوبة للتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان".

وفي هذا الإطار، يؤكد عميد كلية إدارة الأعمال في "جامعة الحكمة" البروفيسور ​جورج نعمة​ في مقابلة مع "الاقتصاد"، أن ​المؤشرات الاقتصادية​ والمالية والنقدية في وضع سيئ جداً وهي في تدهور متواصل منذ عامين، فيما فشل التدقيق الجنائي سيضاف إلى مسلسل التدهور الحاصل، حيث أن لبنان بحاجة لأن يكشف مكامن الخلل لخوض الخطوات الإصلاحية، فيما الصراع اليوم يرتكز على المكان الذي يجب البدء فيه بالإصلاحات، فيما السؤال المطروح: إلى أين سيوصلنا التدقيق الجنائي؟ وما الخطوات التي يُمكن أن تُتخذ بناء على نتائج هذا التّدقيق؟

ويشير نعمة، إلى أن "كل هذا المسار لم يكن واضحاً منذ إقراره في ​مجلس الوزراء​ وحتّى اليوم، إذ كان من المطلوب بذل مجهود إضافي لوضع رؤية واضحة، وإشراك كل الأطراف المعنيّة بالأمر. وللأسف، هذا المسار لم يحصل، ونشبت خلافات عدة حوله، حيث طالبت أطراف بالبدء بمؤسسات الدولة قبل التدقيق بحسابات مصرف لبنان، فيما طالبت جهات أخرى بالبدء بالتدقيق الجنائي في حسابات المركزي، وهو ما أدّى إلى نسف التدقيق".

ويؤكد عميد كلية إدارة الأعمال في "جامعة الحكمة"، أن "التدقيق الجنائي في ضوء الأزمة الخانقة والتدهور الذي نعيشه على مختلف المستويات، هو حاجة للبنان، وكان من المفترض أن يبدأ بكل الإدارات والمؤسسات التي تُعنى بالشأن المالي".

وشدد على أنه "كان من المفروض، أن يتم دراسة هذا الخيار وإطلاقه من خلال ورشة وطنية، تضم الأطراف المعنيين جميعاً حتى نصل إلى النتائج المرجوّة، ولكن هذا المسار لم يحصل".

فيما يختص بالسرية المصرفية التي كانت سبباً في نسف التدقيق الجنائي، قال نعمة، إن "قانون السريّة المصرفية وقانون النقد والتسليف، يمنعان أي جهة من الحصول على مستندات ووثائق من المصرف المركزي، ومن هنا تقول وجهة النظر الأولى، إنه لا يمكن البدء بالتدقيق الجنائي دون غطاء تشريعي تمكّن الشركة المكلّفة بالتدقيق من الحصول على المستندات المطلوبة.

فيما وجهة النّظر الأخرى، ترى أن "مصرف لبنان مؤسسة خاضعة لمجلس الوزراء، وللمجلس في هذه الحالة اتخاذ أي قرار يتعلق بمستندات المركزي الذي لا يُمكنه رفض طلب الحكومة في هذا المجال، إذ إن التدقيق الجنائي يهدف للتحقيق في كيفية صرف الأموال، ولا يرتبط بأي أهدافٍ أخرى".

ويشير نعمة، إلى أنه "في ضوء وجود وجهتي نظر في هذا المجال من الناحية القانونية، يجب التنبه إلى أن المصرف المركزي بحسب قانون النقد والتسليف في المواد 13 و44، لديه استقلالية إدارية ومالية، فيما مجلس الوزراء له الحق في مراقبة عمل مجلس البنك المركزي، ولهذا يوجد منصب مفوض للحكومة".

ويؤكد، أنه على المدى السنوات الماضية، لم يُلعب هذا الدّور كما يجب، ولأجل ذلك وصلنا في النهاية إلى الوضع القائم حالياً".

وأضاف نعمة: "اليوم إذا أرادت السّلطة أن تعيد فرض هذا الدّور، عليها أن تتفاوض مع مصرف لبنان، خاصة في ضوء اكتمال التعيينات في مجلس المركزي بعد تعيين النواب من قبل السّلطة التنفيذية، ويجب أن يتم التوافق بين الطرفين على ضرورة توحيد الجهود لإنجاح التدقيق الجنائي، لما له من تبعات إيجابية على لبنان والعمل على الإتفاق على آليات لإنجاح هذا التدقيق".

أما في ما يتعلّق بالانعكاسات السلبية المباشرة لانسحاب شركة التدقيق الجنائي، فأكد نعمة أن الوضع يخلو كلياً من أي إيجابية، فيما الأفق ضبابياً، وسعر صرف الليرة عاد للتدهور أمام الدّولار وهذا السعر اليوم بات عائماً أي محرراً، وتتحكّم به ​آلية​ العرض والطلب، مع بروز بعض المضاربات.

وقال، إن المشكلة الأساسية في لبنان هي فقدان الثقة التي تؤدي إلى تدهور الليرة.

وأضاف، أن التدقيق الجنائي هدفه التحقيق مجال معين لتبيان تفاصيل مالية في مصرف لبنان، ليُتخذ بعدها إجراءات إصلاحية.

وأكد نعمة، أن "الحل الوحيد للخروج من الأزمة، يبدأ بإعادة تشكل الحكومة، ومن ثمّ خوض مفاوضات جدية مع "صندوق النّقد الدّولي"، للحصول على كميات من الدّولار وضّخها في الاقتصاد، على أن يتزامن هذا مع المسار مع إصلاحات حقيقية فعلية؛ إذ إنه مع تدقيق جنائي أو بدونه، الجميع يعلم كيف صُرفت الأموال، وبوجود تدابير جدية، من الممكن اتخاذ خطوات لانجاح التدقيق الجنائي على أن تترافق مع خطوات إصلاحية تساهم وضع مسار لحل الأزمة".