لم يعد التدقيق الجنائي بنداً من بنود الخطة الاقتصادية التي وضعتها حكومة الرئيس ​حسان دياب​ المستقيلة بل تحوّل الى احدى التوصيات التي تضمنتها ورقة ​الرئيس الفرنسي​ ​ايمانويل ماكرون​ الإصلاحية، مشترطة على المسؤولين أن أي مساعدة مالية مستقبلية للبنان ستعتمد على ​الإصلاحات الاقتصادية​ والمالية السريعة.

ولكن ورشة التدقيق هذه اصطد مت بعائق اساسي كما توّقع بعض الخبراء في القانون حيث كشف مؤخرا ً وزير المال في حكومة تصريف الاعمال غازي وزني أن "عملية التدقيق المالي في ​مصرف لبنان​ قد بدأت منذ نحو شهر وإن "شركة التدقيق "ألفاريز ومارشال" أرسلت قائمة بنحو 100 سؤال، وأرسل ​حاكم مصرف لبنان رياض سلامة​ بالفعل 42 في المئة من الأجوبة".

وأوضح أن المعلومات الأخرى محمية بموجب قانون السّرية المصرفية، مضيفا: "قبل أسبوع، كانت شركة" ألفاريز" هنا لتشرح لنا أنه من الصعب أن تبدأ العمل، واتفقنا على فترة تأجيل مدتها ثلاثة أشهر من بداية عملية التدقيق المالي".

وأشار وزني إلى أنه "خلال هذه الأشهر الثلاثة ستحاول الحكومة معرفة كيفية قدرتها على توفير المستندات اللازمة لشركة "ألفاريز"، أو ما إذا كانت هناك إمكانية لتقديم مشروع قانون يعدّل قانون السرّية المصرفية، أو مشروع قانون يسمح لشركة "ألفاريز" بشكل استثنائي الوصول إلى المعلومات التي تغطيها السرّية المصرفية".

وشدد على " أن شركة "ألفاريز ومارشال" لها الحق في الوصول المباشر إلى كل ما هو من الأموال العامة على مستوى الوزارات والهيئات العامة.

فأننا نمر بأزمة مصرفية وأن الناس لا يستطيعون استرداد ودائعهم . من المهم جدًا أن نعرف أين ذهبت الأموال اولاً . ثانياً، سيكشف التدقيق الخسائر الحقيقية للبنك المركزي و​القطاع المصرفي​" معتبراً ان تحديد حجم هذه الخسائر سيسمح عندها لصانعي القرار اتخاذ القرارات المناسبة بشأنها".

باختصار، يبدو قانون السرّية المصرفية يشكّل العائق الرئيسي اليوم في ورشة استكمال التدقيق خصوصاً وان العقد المبرم بين" الفاريز و مارشال " و​وزارة المال​، ينصّ على أن التدقيق "يجب أن يتم بموجب القوانين اللبنانية، وهذا يعني أن الشركة لا يمكنها طلب معلومات تنتهك قوانين السرّية المصرفية.

مرقص

ويرى المرجع القانوني رئيس منظمة جوستيسيا الحقوقية الدكتور بول مرقص ان قانون سرية ​المصارف​ الصادر في 3 ايلول 1956 يحظّر على أي طرف الوصول إلى الحسابات المصرفية ما عدا استثناءات قليلة جدا. حتى لجنة الرقابة المصرفية غير مسموح لها الاطلاع على الحسابات الدائنة بل المدينة فحسب. فكيف يمكن لشركة خاصة ، حتى لو تم تكليفها من قبل ​مجلس الوزراء​ ، الوصول إلى جميع هذه الحسابات، دونما تدارك ذلك مسبقا؟

ومرقص الذي كان لفت في حديث سابق منبهّاً من الوصول الى هذه المعوقات المعرقلة لعملية استكمال التدقيق الجنائي المالي، يقول اليوم "للاقتصاد": اذا كان لا بد من رفع ​السرية المصرفية​ عن جهة معيّنة فليطلب منها بموجب كتاب توقعّه إعطاء الاذن برفع السرّية المصرفية لدواعي التشريح المالي الجنائي، والا فنذهب الى تعديل القانون الذي قام فريق عمل "جوستيسيا" تطوّع للإعداد له بناء على طلب إحدى المرجعيات المعنية. ولكن في غضون ذلك، نكون قد وضعنا الاطراف المعنية كافة امام مسؤولياتها عبر طلب اعطاء الاذن رضائيا فيتم فضحها في حال التمنّع. فمطلق اي عميل في البنك يمكن الطلب اليه برفع السرية المصرفية عن امواله حيث ان أحكام قانون سرّية المصارف لهذه الجهة ليست من النظام العام، وإنما وضعت لمصلحة العميل الذي يمكنه التنازل عنها لغرض معين بمقتضى المادة 2 من القانون الصادر في 3 ايلول عام 1956".

عملاء مصرف لبنان معروفون: الدولة و​المصارف التجارية​، وتاليا، فإن حاكم مصرف لبنان لا يمانع في تقديم جميع المعلومات في حال تعديل قانون السرّية المصرفية أو رفعه. فإذا أبدت الدولة استعدادها لرفع السرية المصرفية عن حساباتها، سيقوم مصرف لبنان بتزويد شركة التدقيق بجميع المعلومات. وفي حال وافقت المصارف على رفع السرّية المصرفية عن حساباتها في المصرف المركزي، فإن الأخير سيلتزم طلبات الشركة.

فالمصرف المركزي ملزم بكتمان السر لمصلحة المؤسسات والمصارف والجهات التي يتعامل معها عملاً بأحكام المادة 151 من قانون النقد والتسليف، التي تستند الى قانون سرّية المصارف الصادر في 3 أيلول 1956، بما يجيز لمصرف لبنان الإمتناع عن تزويد شركة " الفاريز و مارشال " بالمعلومات والمستندات المطلوبة ، خصوصاً تلك المشمولة بالسرية المصرفية.

قانون السرّية المصرفية

بتاريخ 3 أيلول 1956، أصدر المشرّع اللبناني قانون سرّية المصارف ، وكان للاعتبارات السياسية والاقتصادية، ولاسيما الأموال العربية الهاربة من بلادها، في أوقات الثورات والإضطرابات السياسية، أثر مهمّ في إرساء فكرة نظام سرّية المصارف في لبنان، تلبية لمتطلّبات الأوضاع السياسية والاقتصادية سواء في لبنان، أو في ​الدول العربية​.

وقد كان لبنان في ذلك الوقت يجمع بين صفتيّ النظام السياسي المتين، والنظام الاقتصادي الليبرالي المتطوّر، في وقت كانت فيه البلدان العربية المجاورة فريسة للثورات والإنقلابات التي كانت تُطيح بالأنظمة السياسية، معتمدة مبادئ الأنظمة الإشتراكية، التي كانت تتراجع أمامها مبادئ الحكم الديمقراطي الذي يعتمد السياسة الاقتصادية الليبرالية. وهكذا برز إلى الوجود، في تلك الحقبة من الزمن، مبدأ الاقتصاد الموجّه الذي يفترض رقابة شديدة على دخول وخروج الرساميل، كما يفترض فرض الضرائب المرتفعة. ولذلك أخذت ​الثروات​ العربية و​الاستثمارات​ المختلفة تتدفّق على لبنان بوفرة على أثر الحرب العالمية الثانية من قبل البلدان العربية، فتوفّر للبنان رؤوس أموال مودعة في مصارفه أو مستثمرة على شكل أسهم في شركات مساهمة أو شراء عقارات وغيرها، مما حدا بالمشرّع اللبناني تلبية لهذه الأوضاع الاقتصادية إلى تشجيع ​رؤوس الأموال​ الأجنبية، مهما كان مصدرها، على الاستقرار في لبنان، فكانت فكرة الإيداع السرّي لدى ​المصارف اللبنانية​، مما أتاح للمصارف منح إعتمادات واسعة في قطاعات التجارة والصناعة والزراعة وسواها، مما أدّى إلى إزدهار اقتصاد ​الدولة اللبنانية​ آنذاك، بفضل قانون سرية المصارف.

وبالنسبة إلى مضمون موجب حفظ السرّ:

ألزمت المادة الثانية المذكورة من قانون سرّ ية المصارف الأشخاص الخاضعين للسريّة عدم إفشاء ما يعرفونه عن أسماء الزبائن وأموالهم والأمور المتعلّقة بهم لأي شخص أو سلطة عامة. والمهم في نصّ هذه المادة هو معرفة المقصود بعبارة السرّ المطلق لمصلحة الزبائن. ولقد فسّر االمشترع هذه العبارة بأنها تعني عدم البوح بأسماء الزبائن كما وبالأعمال والمعاملات والأرقام حتى بدون ذكر أسماء أصحاب هذه الأعمال. وذلك لأن التفسير الواسع يؤدّي إلى القول بأن البوح بعمليات الزبائن وحساباتهم، حتى دون البوح بأسمائهم قد تؤدّي إلى تمكين أشخاص ثالثين أو إدارات عامة من معرفة هوية الزبون. كما لو أقدم المصرف على البوح بأن بعض زبائنه، دون ذكر أسمائهم، يهتمون بتمو يل مشروع معيّن. ويبدو أن المشرّع اللبناني قد إعتمد هذا التفسير الواسع كما اعتمدته المصارف ذاتها، وخاصوصا تجاه الدوائر المالية. ويشمل المنع المطلق، الالتزام بحفظ السرّ تجاه جميع الأشخاص بمن فيهم زوج الزبون وأصوله وفروعه، والإدارات العامة، وغيرها...

في مطلق الأحوال ، فإن اي جدية في مسك الملفات والذهاب بها الى النهاية لا يمكن وضع العصي بالدواليب امامها لأّن القرار السياسي ينتج الإجتهادات المناسبة.