في غمرة الانشغال اللبناني بالازمة المالية والاقتصادية تراجع الحديث عن ازمة النزوح السوري الى لبنان، وانعدم البحث في الاثار الاقتصادية لهذه الازمة، سواء لما ترتبه على ​الاقتصاد اللبناني​ من اعباء اضافية، او بالعكس، ما تقدمه من فرص، كما يقول البعض، او لجهة الوضع الحالي للنازحين السوريين ومدى توحدهم في جلجلة واحدة مع المواطنين اللبنانيين في ​الفقر​ والمعاناة.

قبل أيام عاد الموضوع الى التداول مع انعقاد مؤتمر اعادة النازحين الى بلدهم والذي عقد في دمشق وشارك فيه لبنان عبر وزير الشؤون الاجتماعية رمزي مشرفية، الذي اعلن ان المؤتمر وافق على الخطة اللبنانية لاعادة النازحين الموجودين على ارضه. ولكن، واقعيا، لم يخرج المؤتمر باي نتائج حاسمة لان الدول الكبرى عالميا وعربيا قاطعته بسبب انعقاده برعاية ​النظام السوري​ و​روسيا​، واقتصر الحضور فيه على اهل البيت من حلفاء ​موسكو​ واصدقائها.

هذا من جهة، ومن جهة ثانية تعتقد مصادر وزارية لبنانية أن ملف عودة النازحين السوريين الى بلادهم ازداد تعقيداً مع ​الازمة الاقتصادية​ الحادة في ​سوريا​ ، ومحاولة النظام السوري تقنين هذه العودة تحت شعار "العودة الطوعية" المنسقة معه، بالإضافة إلى التعقيدات التي وضعتها ​السلطات السورية​ في الفترة الاخيرة ومنها فرض مبالغ مالية معنية على النازح الراغب بالعودة.

لا شك ان النازحين السوريين في لبنان تأثروا بالازمة الاقتصادية الحالية مع تراجع القدرة الشرائية لليرة بمعدل 90 في المئة، وإلى زيادة ​معدلات التضخم​ إلى أكثر من 120 في المئة، وإلى غلاء المواد الاستهلاكية بنسبة 400 في المئة، تماما كما تأثر بها المواطن اللبناني ، بالاضافة الى ان العامل السوري (غير النازح ) المقيم في لبنان تأثرت تحويلاته إلى بلاده أيضاً بالعملة الصعبة.

بالنسبة لهؤلاء العمال فان جدوى بقائهم في لبنان باتت صغيرة للغاية وخصوصا مع انعدام ​الدولار​ في السوق واضطرارهم ، مثل اللبنانيين تماما، الى قبض رواتبهم بالليرة المنهارة، ولكن مما يبدو فان لا خيار لديهم سوى البقاء بسبب استحالة ايجاد عمل وتأمين لقمة العيش في بلادهم اذا عادوا اليها.

اما بالنسبة للنازحين فانهم الفئة الاقدر على الصمود في لبنان لانهم ما زالو ا يستفيدون من مساعدات ​الامم المتحدة​ بمعدل 27 دولارا شهريا لكل فرد، وحتى لو كان هذا المبلغ صغيرا فان وضعهم افضل بدرجات من كثير من اللبنانيين العاطلين عن العمل والمحرومين من اي دخل.

كانت التقديرات الاخيرة والعائدة لبداية العام 2019 تشير الى ان ​المساعدات​ الأجنبية التي تخصص للنازحين، هي مليار وثمانمائة مليون دولار سنوياً، استفاد منها الاقتصاد اللبناني بشكل مباشر، فضلا عن استفادة الجمعيات اللبنانية التي تعمل مع اللاجئين. ووفق إحدى الدراسات، تبيّن أن كل دولار ينفقه النازح في لبنان له مفاعيل مضاعفة في الاقتصاد تقدّر بنحو دولار ونصف، ويقدر إنفاق النازحين على الغذاء وحده يقدّر بحوالى الـ 400 مليون دولار سنوياً كأموال نقدية، لا علاقة لها بالمساعدات الغذائية العينية.

في المقابل، كثيرة هي الاعباء الذي يرتبها وجود النازحين السوريين على البنى التحتية اللبنانية، ويكفي ان نذكر ​الكهرباء​ التي يستهلكها النازحون، فهي اما غير مدفوعة في المخيمات، واما مدفوعة في البيوت المستأجرة، ولكن تفاقم خسائر الدولة التي تبيع الكهرباء بخسارة لتقديم طاقة رخيصة يستفيد منها اللبنانيون والسوريون... ومافيا المولدات على حد سواء.

كان المقابل الايجابي لوجود النازحين هو تأمين عمالة رخيصة في قطاعات لا يعمل اللبنانيون فيها. فنسبة العمال السوريون في المناطق الريفية كانت تقدّر بحوالى 30 في المئة من النازحين، وبرواتب لا تتعدى المائتي دولار شهرياً. أما إنفاق السوريين على ايجارات البيوت في تلك المناطق فتقدر بنحو مئة مليون دولار سنوياً. ولكن هذا الواقع تبدل جذريا ايضا مع توقف شبه التام لقطاع البناء، واضطرار اللبنانيين للعمل في قطاعات كانوا يرفضونها من قبل وخصوصا في الزراعة.

من اصل 1.1 مليون نازح سوري مسجلين رسميا في سجلات الامم المتحدة تقدر القوى العاملة منهم بـ500 ألف عامل، يتقاضى كل واحد منهم، كمعدل وسطي، نحو 20 دولاراً يومياً. وكان يقدر إجمالي المبلغ بملياري دولار ما بين الادخار والتحويل إلى سوريا. ولا شك ان ​التحويلات​ الشرعية تضاءلت كثيرا بسبب شح الدولار في لبنان، بالاضافة الى تطبيق قانون قيصر الذي يحظر على ​المصارف اللبنانية​ اي تعاملات مع سوريا.

في كل الاحوال فان الارقام الآنفة الذكر تبدلت جذريا مع الازمة الاقتصادية الحالية، وينبغي اعداد درسات واحصاءات جديدة لمعرفة حقيقة وضع النزوح راهنا وتأثيراته على الاقتصاد، سلبا او ايجابا.

تبقى المساعدات الخارجية للسوريين بالدولار الاميركي هي الاكثر تاثيرا ايجابيا على لبنان. وثمة خبراء يعتقدون ان هذه الاموال هي احدى ثلاث موارد رئيسية لدخول الـ"fresh money"، والموردان الآخران  الاول شرعي، هو تحويلات اللبنانيين في الخارج الى ذويهم، والثاني غير شرعي، هو تدفق الدولارات بطريقة غير شرعية الى بعض الاحزاب، وخصوصا ​حزب الله​.

الا ان هذا المصدر "السوري" لا يعول عليه كثيرا لان كل ما يصل الى يد النازح، سواء كان عاملا او لا، يرسل الى سوريا بمعظمه، فالطبيعة الاستهلاكية للنازح تختلف عن نمط الاستهلاك للبناني. فالنازحون، أو معظمهم، يشترون الحاجيات الأساسية دون الكماليات، وكثير منهم يتسوق من سوريا، نظراً لفارق الأسعار بين البلدين، ويبقى قسم قليل من الدولارات التي تردهم في لبنان لتنفق فيه.

على العكس من ذلك فان الازمة الراهنة خلقت سوقا سوريا ضخما للغاية في لبنان يقوم على شراء الدولار من ​السوق السوداء​ لارساله الى سوريا. فالبضائع السورية التي تغزو لبنان بسبب رخصها، وغالبا على حساب الجودة والنوعية، تباع بالليرة اولا، ثم يعمد التجار الى طلب الدولار من السوق السوداء، ما تسبب بارتفاع ​سعر صرف الدولار​ مقابل ​الليرة اللبنانية​، وبمزيد من التدهور في سعر صرف الليرة مقابل الدولار.

هذه سوق كبيرة لانه، وعلى الرغم من الحرب في سوريا طيلة هذه السنوات العشر الاخيرة، فإن تهريب المواد الاستهلاكية والخضراوات و​اللحوم​ بقي على وتيرة تنافسية مع البضاعة اللبنانية. هذه الحركة التي نشطت على المعابر غير الشرعية، وهي مسألة لا تتعلق مباشرة بوجود النازحين السوريين، ولكن النزوح او احد عوامل تشجيعها ، لان النازحين في لبنان يطلبون البضائع السورية اولا، كما ان الالاف منهم يساهمون في عمليات التهريب هذه عبر الانتقال الدائم بين البلدين.

الخبراء السوريون، وخصوصا المحسوبون على المعارضة، يقولون ان النازحين السوريين في لبنان يعانون بنفس الدرجة مثل اللبنانيين، اذ بسبب الازمة وتوقف نشاط مؤسسات اقتصادية، أو تخفيض كلفها التشغيلية من خلال الاستغناء عن جزء من العمالة لديها، فقد 160 الف سوري اعمالهم في لبنان، ويتوقعون تضاعف هذا العدد في السنة الحالية ليبلغ بين 250 و 300 الف شخص.

وكما أن الأزمة تنعكس على عمالة اللبنانيين، فمن باب أولى أن يتأثر السوريون وغيرهم من العمالة الأجنبية بالأوضاع الاقتصادية، لأن فقدان اللبنانيين لوظائفهم، أو انخفاض قيمة رواتبهم، يدفعهم إلى الاستغناء عن بعض أعمال الخدمات، من صيانة وغيرها، التي يمتهنها السوريون وهو ما يزيد من تأثرهم.

من ناحية أخرى، تبدو أيضاً تداعيات التفاوت في سعر صرف الدولار جلية على السوريين، لان العاملين منهم في منظمات دولية تعني باللاجئين اجبروا على استلام رواتبهم بالليرة اللبنانية بدلاً من الدولار وفق سعر الصرف الرسمي، ما اجبرهم على شراء الدولار من السوق السوداء لتحويل المال خارج لبنان. والخشية الاكبر لدى النازحين ان تعمد كل المنظمات الدولية الى صرف المساعدات (27 دولارا للفرد شهريا ) بالليرة اللبنانية وفق سعر ​مصرف لبنان​. وعندها ستقع الكارثة.

الخلاصة ان مقاربة مسألة النزوح السوري لا تختلف أبدا عن مقاربات الازمات الاخرى في لبنان، وكلها بانتظار حكومة جديدة، قد لا تولد قريبا.

فلا ارقام رسمية يعول عليها، ولا اجراءات تحدد حقوق وواجبات النازح، وتمنعه من خرق القوانين، كي لا يتحول الى قنبلة موقوتة في مجتمع مفكك اصلا، وكي لا يصير سلعة يتم التجارة بها في سوق النخاسة الدولي ، وكذلك لا خطط جدية لاعادتهم الى بلادهم.

المعاناة واحدة بين اللبناني والسوري في الكثير من المجالات، ولكن ايضا ثمة الكثير من الممارسات التي تزيد وتعمق الجرح اللبناني، وليس النازح البريء مسؤولا عنها، بقدر ما هو واقع شاذ ساهمت سلطتا البلدين، سوريا ولبنان، في تكريسه. لذلك فان المصلحة الشعبية اللبنانية السورية هي في تنظيم هذا الوجود الكثيف للنازحين، بما يضمن كرامتهم بانتظار عوتهم الى بلادهم لينالوا حقهم في الحياة.. وكرامة المواطن اللبناني وحقه في العيش الكريم في بلده.