مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبعد ما ضمن الحلفاء النصر،عقد ممثلون من 44 دولة لقاء في منتجع بريتونوودز في ولاية نيو هامبشير بالولايات المتحدة عام 1944 لوضع إطار لنظام ​مالي​ عالمي جديد لتجنب اضطرابات نقدية وتجارية سادت في سنوات الحرب، وقيل إنها كانت أحد أسبابها.

وخرج هؤلاء بتوصيات اهمها وجوب تنظيم التعاون المالي والنقدي الدولي عن طريق مؤسسة دولية.

وبناء عليه، تم إنشاء ​صندوق النقد الدولي​ لضمان وصول الدول الأعضاء إلى الأموال للمساعدة في ربط قيمة عملاتها.

وقامت الدول الأعضاء بالمساهمة في الصندوق بناء على حجم اقتصاداتها حيث يمكن لها السحب من الصندوق بالتناسب مع حصصها عندما تحتاج إلى ​احتياطات​ لمساندة عملاتها.

وكان إنشاء الصندوق مخرجا اقترحه الأميركيون لحل مشكلة ​السيولة​.

ووافقت الدول الأعضاء بين عامي 1945 و1971 على المحافظة على أسعار صرف عملاتها مقابل ​الدولار​ في وقت كانت أوقية ​الذهب​ تساوي 32 دولارا.

في العام 1997، ربط لبنان عملته بالدولار الاميركي الذي ظل دعامة استقرار. وبقي سعر الربط ثابتاً عند 1507.5 ليرات للدولار طوال تلك الفترة الى ان اندلعت ثورة 17 تشرين الاول في 2019، وانكشفت معها عورات السياسات النقدية والمالية في لبنان، فبدأ الدولار مسيرة التحليق بعدما منعت ​المصارف​ المودعين من الوصول الى مدخاراتهم من هذه العملة التي تبقى رقما صعبا في اي معادلة اقتصادية.

لقد تم تجفيف عملة الدولار من المصارف منذ سنة، رغم استمرار فئة قليلة محظوظة من السياسيين واصحاب المصارف وما يسمّى بالمعرّضين سياسيا تتميّز بحق السحب والتحويل والتهريب. وبعد سنة على الثورة، ساق ​قطار​ التعاميم الصادرة عن ​مصرف لبنان​، بلاغ شدّ حزام تقييد السحوبات النقدية بالليرة التي هي اصلا مقيّدة. ثم قيل انه تم التراجع عنه، رغم ان المصارف سارعت الى التطبيق كل مصرف وفق ما يرتأيه، وهنا البكاء وصرير الاسنان.

- هل هذا البلاغ هو "بروفا" لما سيتم اتباعه في المرحلة المقبلة؟

- ماذا بقي لقانون "الكابيتال كونترول" القابع في ​مجلس النواب​ الذي يقال ان صندوق النقد سيوصي به؟

- ماهي انعكاساته وتداعياته على المصارف وعلى المودعين والاقتصاد ككل؟

مارديني

يعتبر رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني ان بلاغ مصرف لبنان حول تقييد السحوبات بالعملة الوطنية هو "بروفا" لاجراء سيلجأ اليه، ويتم السير به تدريجيا انطلاقا من سقوفات معينّة يتم تخفيضها تدريجيا.

ولا شك ان السبب الرئيسي مرتبط باضطرار مصرف لبنان الى ضخ كميات من الليرات في السوق المحلي بطلب من الحكومة و​المصارف اللبنانية​. فالحكومة تعاني من عجز كبير في موازنتها، اي نفقاتها تتخطى بكثير مداخيلها بسبب الازمة. ومقابل هذا العجز الكبير ما من جهة تبدي استعدادها لتمويل الحكومة ومساعدتها على تغطية نفقاتها، لذلك فهي تلجأ الى الطلب من "المركزي" بتزويدها بالليرة. اضف الى ذلك، ان نضوب عملة الدولار من المصارف يحملها الى تأمين السحوبات لزبائنها بالعملة اللبنانية التي يوفرّها لها مصرف لبنان.

ومع اضطرار المواطنين الى سحب الليرة نقدا لشراء حاجاتهم، يجد التاجر الذي يستورد من الخارج نفسه مضطرا الى تحويل الليرة الى دولار. يضاف الى ذلك، انصراف معظم الافراد الى تحويل أموالهم النقدية من الليرة الى الدولار حفاظا على قيمتها وهربا من تدهوّر سعر صرف العملة الوطنية. من هنا، جاءت عملية تقييد السحوبات بالعملة الوطنية كوسيلة تسمح "للمركزي" بضبط كمية الليرة النقدية المتداولة في السوق مع الاستمرار بتزويد الحكومة والمصارف بالليرة الرقمية.

ويقول مارديني"للأقتصاد" اذا شعر "المركزي" ان هذا الاجراء يخفف من عرض الليرة النقدية ويزيد الطلب عليها فيكون هذا الاجراء قد حقق مبتغاه لأنه يساهم بضبط سعر الصرف. ولكنه بالتوازي يخنق الاقتصاد المحلي بشكل كبير سيما وان بطاقة الائتمان ليست بمتناول جميع اللبنانيين لاستعمالها في دفع الاموال. فهناك شريحة واسعة من المهن الحرة وفي القطاع ​التجار​ي، مثل بائعي الخضار والميكانيكي وغيرهم الكثير من أصحاب الدخل المحدود لا يملكون ماكينات ​بطاقات الائتمان​ ما سيحرمهم من الزبائن والمدخول . وحتى من يملك ماكينات بطاقات الائتمان من التجار، فانه سيقبض أموال لا يمكن استعمالها ل لاستيراد او للادخار... لذلك، فان الطبقات المعدومة ستكون الاكثر تضررا.

وفي حين ان التضخّم وانحدار سعر الصرف يصيبان جميع حاملي الليرة سواسية، فان هذا الاجراء يستهدف الطبقات الفقيرة اكثر من الميسورين. وصحيح انه بإمكان هذه السياسة المحافظة على استقرار سعر الصرف على المدى القصير، ولكن اضرارها مشابهة لما ينتج عن ارتفاع سعر الصرف، أي انخفاض القدرة الشرائية، مع فارق بسيط ، انه مرّكز على الفئات الصغيرة بدلا من المساواة بين الناس. كما انه يعرّقل اعمال التجار و​القطاعات الانتاجية​ ما سيفاقم الازمة.

الكابيتال كونترول يمنع ​التحويلات​ الخارجية

وعن مصير قانون "الكابيتال كونترول " يقول مارديني: انه وفق وجهة نظر صندوق النقد وبعض المراقبين فان اقرار هذا القانون يضع الجميع على مسافة واحدة في موضوع السحب بدلا من ان يكون هناك صيف وشتاء تحت سقف واحد كما يحصل الان. من المعلوم انه اليوم مع غياب "الكابيتال كونترول " ثمة فئة مدعومة تستطيع سحب وتحويل ما تشاء من الاموال، فيما هناك أخرى محرومة وممنوعة من قبل المصارف، أي ان هناك اجحاف كبير بحق شريحة واسعة من المودعين. ولكن السؤال ما لزوم هذا الاجراء اليوم بعدما حوّل المدعومين وسحبوا ما يشاؤون من المصارف في الفترة السابقة؟

نعم، هناك مساوئ " للكابيتال كونترول"، وانا لست مع خياره بوجود اجراءات أخرى تعتبر نتائجها أفضل وأكثر ضمانة. كما انه لا يجب ان يغيب عن بالنا انه سيضرب مستوى الثقة ب​القطاع المصرفي​ ما سيجفف التحويلات الخارجية الى السوق اللبناني. ولا ننسى اننا في لبنان نعيش على التحويلات المرسلة من المغتربين الى ذويهم. فقد نجح المدعومون في تهريب اموالهم ولم يبق سوى المغتربين ليثنيهم عن ارسال اموالهم. اذا "الكابيتال كونترول" سيأتي بعد فوات الاوان.

وانا شخصيا أفضّل تنفيذ إصلاحات نقدية تسمح بإعادة التدفقات النقدية الى لبنان قبل اي اجراء آخر بدل من وضع القيود. فطالما ان المشكلة تكمن في خروج الدولار من لبنان اكثر من عملية دخوله، فلماذا لا يتم العمل على خطة لاستعادة الدولارالى الداخل؟ عندها لن تكون حاجة الى اقرار "الكابيتال كونترول" .

من اجل ذلك، يجب تعزيز الثقة ب​الليرة اللبنانية​ عبر تثبيت سعر صرفها. وهذا لا يتم الا عن طريق اعتماد مجلس النقد، الذي بحسب رأيي له ايجابيات اكثر بكثير من "الكابيتال الكونترول". انه الضامن الوحيد لتحويل الليرة الى الدولار على سعر صرف ثابت. بكل بساطة، تكون كمية الدولارات موازية لكمية الليرات الموجودة. فاذا أراد جميع حاملي الليرة تحويلها دفعة واحدة وبنفس الوقت الى الدولار، يمكن تلبية حاجاتهم جميعا لأ ن كامل اصدار الليرة اللبنانية يكون مغطى 100% بعملة الاحتياط (الدولار)، على عكس اليوم، حيث ان زيادة كمية الليرة في السوق غير مرتبطة بالاحتياط ما يدفع الى عدم الثقة بالليرة ويرفع من خطورة تدّهور سعر الصرف.

هذا النظام سيكفل عودة التحويلات الاجنبية الى لبنان، كونه يقدم لأصحابها ​حافز​ الربح من ​سعر الفائدة​ المدفوعة على الليرة وضمانة تحويلها الى دولار. وبالتالي، فان هذه التحويلات ستساعد في تراكم الاحتياطات في مصرف لبنان بعدما شارفت على الانتهاء اليوم. وتلقائيا سيتراجع سعر الفائدة وصولا الى مستوى ​قريب​ مما هو عليه في ​الولايات المتحدة الاميركية​، أي قريب من الصفر. ومع تخفيض الفائدة سيجد الناس فرص عمل جديدة وتتحرك عجلة النمو عندئذ يعود الدولارالى لبنان ويتراكم احتياط المركزي. وهذا ما سينعش القطاع المصرفي ويؤمّن المداخيل المطلوبة للدولة.

على ضوء هذه المعطيات التي تدور في فلك اجراءات تقيّد عمليات السحوبات، هل اصبحت جدوى "الكابيتال كونترول" غير واضحة او هل أصبح اقراره لزوم ما يلزم؟ ولماذا لا يدرس جديا حل مجلس النقد؟

خطة الحكومة المقبلة المفترض ان لا تكون اعتيادية ستحمل الأجوبة وعسى ان لا تأتي متأخرة لا بل مفيدة.