بين ​الدولار​، و"الهولار"، و"اللولار"، و"الشولار"، والليرة، و"البيرة"... يعيش اللبناني بالفعل مأساة يومية، وضغوط متعددة تنهمر عليه مع كل قرار، أو حديث، أو حتى شائعة.

ومع تعمّق الاقتصاد النقدي، واستمرار الخلافات السياسية الداخلية، وغياب آفاق الحلول، يبقى التخبط سيد الموقف، وتبقى الضبابية العنصر الأساس المخيم على مستقبلنا جميعا، ليصبح الأمل بالتخلص من التعدد في أسعار الصرف، شبه مستحيل مع كل يوم تأخير.

فهل أن الحد من السحب بالليرة اللبنانية، الذي يعتبر إجراء متوقعا، هو مجدي اليوم؟ وفي ظل غياب الاتفاق السياسي والسلطة التنفيذية، هل هناك أي حلول قادرة على إصلاح سعر الصرف والتخلص من أسعار الصرف الستة الموجودة حاليا في السوق اللبناني؟ كيف يمكن الوصول الى برّ الأمان وتحسين المقاربة الاقتصادية التي من شأنها انتشال البلاد من قعر الهاوية التي وصل اليها؟

أجاب على هذه التساؤلات وغيرها، ​الخبير الاقتصادي​ د. بلال علامة، حيث أوضح أنه نتيجة التلكؤ في السياسات المالية التي تقاعست السلطة عن اتخاذها، سواء التنفيذية أي الحكومة، أو التشريعية من خلال إقرار قوانين الـ"capital control" والتحقيق في الأموال المحولّة، وغيرها، بات ​مصرف لبنان​ مضطرا في مكان معين، أن يغطي نقص ​السيولة​ في السوق، ومن هنا، تم ضخ سيولة ضخمة بالعملة اللبنانية تقدر اليوم بـ25 تريليون؛ حيث كانت تبلغ 6 تريليون، خلال الفترة ذاتها من عام 2019، أي في نهاية شهر أيلول.

وأشار الى أنه بسبب هذا الفارق الكبير، باتت كل السيولة موجودة بين أيدي الناس، في ظل سيطرة الاقتصاد النقدي (cash economy)؛ أي أنهم يسحبون الأموال من ​المصارف​، ويحتفظون بها من أجل التعامل بها، ما دفع، في مكان ما، الى الضغط على سعر الدولار في ​السوق السوداء​. وذلك لأن ​السيولة النقدية​ بالليرة اللبنانية تستخدم من أجل تحويلها الى الدولار لأهداف عدة، منها الاستيراد، إعادة رسملة الشركات، والمضاربة.

وكشف د. علامة أيضا، أن الضغط الذي حصل على الدولار، ومع غياب أي قرارات تنفيذية أو تشريعية، من شأنها ضبط الأمور، كان من المفترض على مصرف لبنان أن يتحرك، أو يتخذ قرارات أقل ما يقال فيها أنها "ترقيعية"؛ أي لا تعالج المشكلة، لكنها قد تحل جزءا معينا، مع خلق مشكلة أخرى، في المقابل، وذلك لأن القرارات التي لا تكون شاملة ومقوننة ومدروسة، غالبا ما تظهر نتائج غير فاعلة.

وتابع قائلا: "اضطر مصرف لبنان، من أجل الحد من تداول السيولة الهائلة بالليرة اللبنانية الموجودة في السوق، أن يصدر تعميما يلزم المصارف من خلاله، بأن تحدد سقوفا معينة، ضمن الممكن، لمنع الفائض بالسيولة؛ أي تحديد سقوف مقبولة للتعامل، بحيث تشمل تغطية الحاجيات الإنسانية، دون إمكانية الحصول على فائض للتداول عبر المضاربة أو الضغط على الليرة.

وفي سؤال لـ"الاقتصاد"، عن ما اذا كان بإمكان المصارف تلبية طلبات المودعين على الليرة، في ظل السقف الذي وضعه لها مصرف لبنان، أوضح د. علامة، أنه من خلال الدراسات التي أجريت حول حجم السحوبات التي كانت تحصل خلال الأشهر الماضية، ترى ​جمعية المصارف​ أنه من الممكن تلبية هذه السحوبات، بالكمية ذاتها، دون الدخول بمستوى أقل من ما هو مطلوب للسوق، خاصة أنه في تعميم الجمعية، شددت على استخدام الشيكات والبطاقات المصرفية؛ وهذه البطاقات، سواء كانت مسبقة الدفع، أو الفورية، أو الدين، قد تغطي مساحة من السيولة المطلوبة، دون اللجوء الى الأموال النقدية.

وقال: "إن حث جمعية المصارف المواطنين على الدفع باستخدام البطاقات والشيكات، يهدف الى تغطية الفارق، وتعتبر الجمعية بذلك، أنها قادرة على تغطية سقف السحوبات التي كانت تحصل، دون أن تواجه أي نقص أو عجز، وبالتالي تعريض الناس الى ما يسمى بنقص بالسيولة، كما حكي في بعض التعليقات".

وذكر أن مشكلة المجتمع اللبناني، تكمن أساسا في أزمة الثقة المستمرة مع المصارف، ومع التعاطي المالي في الأسواق. ولولا هذه الأزمة، لكانت عادت كل هذه الأموال النقدية التي سحبها المودعون خلال الفترات الماضية، الى القطاع المصرفي. ولكن من الواضح، أن كل السحوبات لا تعود الى هذا القطاع، فالناس يسحبون الأموال ويحتفظون بها، ليخدموا بذلك الاقتصاد النقدي. في حين أن البطاقات المصرفية والشيكات مضمونة الى حد ما، كونها مضبوطة الحركة؛ خاصة أن البطاقات ليست مفتوحة، بل لديها سقوف معينة، ومن هنا، لا يمكن للشخص أن يتعدى السقف المحدد له.

وأضاف د. علامة: "هذه النقطة بحد ذاتها ضمانة؛ فعندما يدفع الشخص بواسطة البطاقة المصرفية، سيضطر بعد فترة الى إرسال الأموال النقدية الى المصرف لتغطية ما سحبه، ما يعيد جزءا من هذه الأموال المتداولة الى الدورة المصرفية، لكي يعود النشاط الى الحركة.

من جهة أخرى، أكد أنه بدون الاتفاق السياسي والحكومة الجديدة، من غير الممكن استنباط الحلول التي من شأنها إصلاح سعر الصرف والتخلص من الأسعار المتعددة المتداولة حاليا في السوق. حيث أن عدم وجود حكومة تستطيع طرح سياسات ثابتة ومدروسة لمعالجة هذه المشكلة، ينعكس سلبا أيضا على القطاع المالي؛ اذ أن جزءا ملحوظا من الحركة المالية هو للسوق السوداء، ما يعني أنه خارج سيطرة السلطة والمؤسسات اللبنانية الرسمية، أي مصرف لبنان و​وزارة المالية​ وغيرها. وبالتالي، ستبقى الأمور خاضعة لـ"الابتزاز".

وتابع: "نحن بحاجة الى إرادة سياسية وقرار جريء، من قبل من سيستلمون زمام السلطة. كما عليهم أن يكونوا شفافين لدرجة تتيح لهم التعاطي والتحديد والكشف والطلب والمعاقبة. ويالانتظار، سيبقى الوضع على ما هو عليه، وربما يتجه نحو الأسوأ".

ولفت د. علامة لـ"الاقتصاد"، الى أن السوق السوداء موجودة في كل جوانب حياتنا، وعلى الأصعدة كافة؛ في السيادة، في السياسة، في الأمن، في الاقتصاد، في المعابر،... واذا لم يتم اتخاذ قرار رسمي وسريع وحازم لمعالجة هذه المواضيع، ومنع بعض الأطراف السياسيين من الابتزاز، سنبقى نتخبط في واقعنا الأليم، وستزيد الأمور سوءا.